في الدنيا وما فيها من تفاهات: دين الجهلة قنبلة مدمّرة (8)

نحن في شهر الصيام. في شهر الصيام، تتغيّر العادات. الكثير من العادات. في رمضان، يتغيّر عيش الناس. سيرهم. قعودهم، قيامهم. تنقلب الأيّام. يصبح

الليل نهارا والنهار ظلاما. تسكن الحركة في النهار وينشط العباد في الليل. يصبح الكلّ خفافيش. في النهار، ترى الناس موتى وقد شدّهم جوع وعطش. هم أشباح تسري. يسكنهم نعاس. في أرض المسلمين، خلال شهر الصيام، تتوقف الحياة. تصبح الحياة جرداء، مجدبة. لا شغل ولا تعلّم ولا حياة في الدنيا. الكلّ في نوم، في سبات... هذا رأيي ورأيي لا يشاطره إلا قلّة. يقول الأيمّة والكثير من العباد، العقلاء منهم والسفهاء، إنّ شهر الصيام هو رحمة للناس وهو مثابرة وجهاد. الى غير ذلك من الكلام.
تعودت والناس من حولي في الشهر، منذ سنين، منذ عقود، منذ أوّل الزمن، على ما يجري من عادات سيّئة. تعوّدت على ما يجري في أرض الاسلام من انخرام، من قتل للحياة، من انفلات. تعوّدت على ما يقوله رجال الدين والناس من كذب وزور...
قتل التعوّد الناس. مع التعوّد، يجمد الفكر. يتسطّح الحسّ. ينتهي السؤال. تصبح العادات طبعا من الطباع. سنّة من السنن. لمّا ينتصر التقليد وتغدو العادات سمة قائمة، متمكّنة، لا مكان للشكّ، للمراجعة. كذلك، عاش الناس. كذلك، جبلت الذات ومن شبّ على عادة مات عليها. فلم الحيرة ولم السؤال وتلك هي الحياة تجري كعادتها وتلك هي الطباع في الانسان، استقرّت؟ مع التعوّد يقبل العقل كلّ معتاد، كلّ زيغ. يستسيغ كلّ انحراف. تستقيم عنده الأشياء والخروقات. غريب ما تفعله بالإنسان العادات. غريب كيف تحوّله العادات الى صخور ملساء لا يمسّها نظر ولا زمان...
الكل تراه على بيّنة، مدركا لما في شهر الصيام من خور، من انخرام. لا أحد يصدّ. لا أحد يعارض ما كان. الكلّ مطمئنّ، راض. يبرّر، يشرح بالحجّة وبالفرقان. يؤكّد أن لم يتغيّر شيء في شهر الصيام وأنّ الصيام جهاد وصحّة للأجسام. ثمّ يأتونك بالحديث وبالآيات وبسير الأنبياء. كلّ يغرّد ما شاء من البيان، يمشي به العقل والخيال وهو مدرك، على بيّنة بما يفعله الناس في الصيام. يقول الأيمّة انّ الصيام ركن من أركان الاسلام. أتاه آباؤنا والأجداد. هو سنّة. هو عادة من العادات... هل ينقلب الانسان العاقل على أصله وذاته؟ هل في الأرض عاقل يخالف ما أتاه السلف وما كتبته السماء؟ كفاك حديثا عن الدين وعن رمضان فأنت لا تعلم بما كان في الاسلام من مقاصد ومن غايات. أفطر ان شئت ودعك من هذه الشؤون وكفاك ثرثرة وهراء. شهر الصيام شهر مبارك. جاء نعمة للعالمين ونقمة للجاحدين، الكافرين. فهل تكون من الكافرين، الجاحدين؟
أعمت بصائرنا العادات. لا أحد يرى كيف تمكّن السوء وكيف ضرب السوس اللحم وأكل العظام. لا أحد يتبيّن، يبيّن، ينبّه المسلمين إلى ما نحن فيه من خسران، من ضلال... من حولي، الكلّ يحمد الله على ما كان. يشكر السماء، راض، مطمئنّ. ماسك، متمسّك بما كان لنا من سنن ومن عادات. كذلك، أرادت السماء. ذاك قدرنا مع الزمان...
نبّه الكثير، من قبل، إلى ما نحن فيه من خور، من سوء عادات. قال الكثير من قبل ما أقوله اليوم من كلام. لكن، لا شيء تغيّر منذ زمان. كذلك نحن عبّاد السنن والعادات. لن ينفع ما أقول من كلام. لن ينفع الكلام مع أنفس أفرغها الزمان..
يقول الكثيرون إن الدين والعادات محفوظة في السماء. لن يقدر على مسّها أحد. يقول الكثيرون ان بالعبادات يعود للمسلمين عزّهم وترفع أوتادهم. هل بالتعبّد سوف يعلو شأن المسلمين ويكون لهم عزّة وأوتاد؟ لا أعتقد. ليس هذا ما كان قديما. ليس هذا ما يحصل الآن. صام المسلمون الشهر وأكثر وصلوا الخمس وأكثر وسجدوا وكبّروا وحجّوا وتهجّدوا واعتكفوا وتضرّعوا... ولم يتمكّنوا. المسلمون اليوم، شرقا وغربا، في الدرك الأسفل. هم في جهل، في بؤس، في خسران... هذا يعلمه كلّ الناس والناس جميعا يتضرعون، ينتظرون رحمة من السماء.
٭٭٭
لا أرى ضررا في الصوم، في الصلاة، في العبادات. في التدين أحيانا نفع ومصلحة للعباد وللبلاد. لكن، في ما أرى، لم ينفع المسلمين تديّنهم ولم تصلح حالهم بتقواهم. في ما أرى، أضرّت بالعباد العبادات. في أرض الاسلام، حصل انكماش. حصل تطرّف ومغالاة. أدمن المسلمون على الدين. أنهكوا فيه العزم وأضاعوا فيه الأعمار. كلّ إدمان هو مضرّ. كلّ مدمن هو أسير نفسه. فاقد للإرادة وللقدرات. في الادمان حسر وقتل للطاقات. في الادمان، قيد للنظر وحصر للإمكانات. أقعد المسلمين التديّن. أضاعوا العمر بين سجود وصيام. لا حياة لمن ولّى وجهه كلّها الى السماء. لا حياة في الأرض لمن تعلّق فؤاده كلّه بالسماء. أصبحت الحياة عندنا دعاء. هي فناء. عند المسلمين، الآخرة هي غاية الدنيا والحياة. هي خير وأبقى.. الى غير ذلك من الكلام.
وراء الادمان هذا هناك جهل ضارب. يجهل المسلمون مقاصد السماء. لم يتبيّنوا كلام السماء... ما خلق الانسان للصوم، للصلاة. ما الحياة اعتكاف وتعبّد وعبادات. بعث الانسان ليحيا، ليتدبّر، لينعم بالحياة. خلق الله الأرض تكريما للإنسان...
المسلمون اليوم في الدرك الأسفل من الفقر والجهل والشقاء. يحسب المسلمون أن بالعبادات تتحقّق الغايات، أن بالعبادات تكون وتتشكّل الحياة. غدا الدين عند المسلمين ملجأ اليه يلوذون ويهربون من معركة الحياة. يسخّرون الدين لتحقيق ما شاءوا من غايات. في كلّ أمر، تجاه كلّ محن الحياة، ترى المسلمين يدعون السماء، يتمتمون، يقولون تعاويذ، يتوسّلون رحمة ومعونة من السماء. يعتقد المسلمون أن بالصوم وبالصلاة تتحقّق المعجزات...
الجهل مصيبة. لا صلاح لمن عشّشت في رأسه جهالة. لا دين حقيقة لمن غلّقت الظلمات فؤاده. تديّن الجهلة مفسد للدين وللحياة. جهلة الدين عمي، صمّ، لا يتبيّنون. هم أحيانا غلاة. يعتقدون أنّهم الحقّ المطلق وكلّ الناس غيرهم في ضلالة. لا مكان عندهم للمراجعة، للنقد، لإعادة التبصر في ما كان. هم لا يتدبّرون الحياة. الحياة من فعل ربّي وهو وحده الموزّع للحظوظ وللأرزاق... جهلة الاسلام قنابل موقوتة. هم ألغام...
٭٭٭
الجهل لا يعني الجهل بالكتابة وبالقراءة. العديد من حامليّ الشهادات العليا هم أحيانا جهلة. العديد من المدرّسين هم أحيانا جهلة. هذا طبيب مختصّ، هذا مهندس خبير، هذا قاض ذاع صيته، هذا رجل أعمال له باع وذراع. تنظر في ما يقوله من نظر وما يأتيه من فعل، تحكّ بإصبع ما يحمل في رأسه من مخزون وفكر، فلا ترى غير جعجعة ورياح... الجاهل ليس الجاهل بالكتابة والقراءة بل هو من تحجّر فكره وانغلق فؤاده، من آمن أن له ثوابت لا تتغيّر وقناعات لا يمسّها مكان ولا زمان. من اعتقد أنّها الحقّ. دينه هو الحنيف وغير دينه ترّهات. الجاهل هو ذاك الذي لا يمسّه شكّ ولا سؤال. يؤمن أنّه الأفضل وأنّ الحقّ بيّن والباطل بيّن. فكره مكتمل. الهداية من الله. هو في غنى عن كلّ إنسان...
المسلمون اليوم في أسفل السافلين. هم في جهل بليغ. ذاك حال المسلمين منذ جاءت الرسالة. هذا يعلمه الناس جميعا ونحياه كلّ يوم، منذ أوّل الزمان... لا أدري كيف معالجة ما نحمل من تخلّف، من رداءة. لا أدري متى ينتفض المسلمون حتّى يجدّدوا الفكر وينزعوا ما سكنهم من عادات وخرافة... ما من شكّ، في المجتمع المظلم هذا الذي فيه نحيا، هناك اليوم منتفعون من هذا الجهل العامّ. لهم مصلحة في الإبقاء على الوضع كما هو وكما كان...
يتشبّث الأيمّة والشيوخ وأهل القرار بما نحمل من سنن ومن عادات. لا أحد من أولي الأمر يحبّ تغيّر الحال. لا يرى أهل القرار في الدين وفي الدنيا نفعا في تجديد النظر وإعادة النظر في ما نحن فيه من غلوّ، من بؤس، من جهالة. في تجديد النظر تعديل للموازين ومسّ بالمصالح. في الابقاء على السنن والعادات إبقاء لأوليّ الأمر ولهم فيها رزق وسلطان. لا يحبّ الأيمّة والشيوخ وغيرهم من المنتفعين من الجهل رفع الجهل عن أعين الأتباع، ورفع الحصار. هم يقتاتون من ذاك الحصار...
ما لقلمي يحشرني في مضامين محرّمة؟ ما لي أدقّ على أبواب مغلّقة؟ لا ينفع مع الجهلة الكلام. كلامك مع الجهلة نفخ في الرمال. هو هراء. في ما أنت تكتب يا شيحة، تحشر نفسك في سبل مسدودة، كلّها مخاطر وألغام. كم من واحد من قبلك هلكه الشيطان فحشر نفسه فأحرقه الشيطان. لا يقدر على مسّ العادات أحد. الاسلام دين محفوظ، ثابت، ثبوت الزمان. بما تقول، تلقي بنفسك في النار. سوف ترى السبّ واللعنة، سوف يلعنك القرّاء وأبوك وأمّك ومن كان من أهلك حيّا...
قد يحصل لك هذا وقد حصل هذا للكثير من قبلك. هناك خطر في ما كتبت. راجع ما كتبت فهذا لك أفضل وأبقى... هل أحذف ما كتبت وأجنّب نفسي اللعنة وسوء العقاب؟ هل أعيد النصّ وأراجع ما حمّلته من رأي ومن أفكار؟ يجب أن أفعل ذلك. ربّ حذر خير من ألف كتاب... لا أدري. سوف أرى. سوف أقرّر إن يجب تغيير الكلام. لا أدري. سوف أرى...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115