ما تزال ديمقراطيتنا الناشئة بعيدة على أن تكون «ديمقراطية مقنعة» إلى حد الآن، على الرغم من مضي أكثر من سبع سنوات على انطلاق مسار الانتقال الديمقراطي، وشهادات الإشادة والشكر والتقدير الإقليمية والدولية التي ما فتئت تتحصل عليها باعتبارها نموذجا استثنائيا في المنطقة العربية التي سرعان ما انطفأت شموع ربيعها الواحدة تلو الأخرى حتى انتهت إلى واحدة فقط، تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تقاوم رياحا عاتية، داخلية وخارجية، تتطلع إلى إطفائها.
تبدو الديمقراطية التونسية حاليا وكأنها قد أدركت «ورطة حقيقية»، لا أحد بمقدوره الجزم بإمكانية حلها قريبا، وهي ورطة تذكر بـ«ورطات الديمقراطية» في كثير من البلدان التي عاشت مسارات انتقال ديمقراطي مشابه، في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وغيرها، والورطة تعني غالبا أن السفينة لا تستطيع أن تتقدم كما لا تستطيع أن تتأخر، كما لا يملك ربانها أو «ربابنتها» طمأنة ركابها والكشف عن برنامج «مقنع» لإخراجها من منطقة الضباب ومجال الخطر، مع تفاقم الإحساس بالخوف والهلع لدى أصحابها من اقتراب غرقها.
إننا في وضعية عصيبة وشائكة، وهو ما علينا كنخب سياسية مصارحة الشعب به، فالأمر يتجاوز «أزمة حكومة» إلى «أزمة حكم»، ويتجاوز «أزمة الحكم» إلى «أزمة تنمية»، ويتجاوز «أزمة التنمية» إلى «أزمة أخلاق وفضيلة»، ويتجاوز «أزمة الأخلاق والفضيلة» إلى «أزمة ثقة حادة» لا تترجمها فقط حالة «حكومة وحدة وطنية» تحولت إلى «حكومة انقسام وطني» بامتياز، بل كذلك أزمة عجز على مواصلة استكمال مسار الانتقال الديمقراطي مثلما خطط له، وهو ما يظهر جليا في توقف تشكيل المحكمة الدستورية، وإنهاء أعمال هيئة الحقيقة والكرامة بهذه الطريقة الفوضوية، وهنا مظهر مفزع لورطة الديمقراطية، مظهر لا نستطيع فيه التقدم إلى الأمام.
أما المظهر الثاني لهذه الورطة، فيتمثل في أننا لا نستطيع كذلك الرجوع إلى الوراء، كأن نعود مثلا إلى وضعية الصراع الثنائي الحاد الذي عشناه منتصف سنة 2013 ولحظات اعتصام باردو، عندما انقسم التونسيون بشكل واضح إلى معسكرين، يملك كلاهما رؤية واضحة لما يجب فعله، فما كشفت عنه الأزمة (الورطة) الراهنة، أن تفكيك التوافق الذي كان حلا لأزمة 2013، ليس سهلا لاعتبارات انتخابية وبرلمانية ودستورية على الأقل، كما أن تطويره وتنميته ليس ممكنا أيضا، فالعلاقة بين الحزبين الكبيرين، حزبي نداء تونس والنهضة ملتبسة تماما، وبقدر ما يبدو التوافق بينهما ضروريا في معالجة أي ملف سياسي مطروح، يبدو استمراره ضارا لأحدهما أو كليهما، بالنظر إلى حاجة أي ديمقراطية للحفاظ على خاصية «التنافسية» ولتباين المرجعية الفكرية والسياسية، وحتى النفسية والاجتماعية لهما.
في السياق نفسه، بمقدورنا رصد العديد من مظاهر الورطة المطروحة، لعل من أهمها نقاط ضعف تكاد تكون قاتلة في النظام السياسي المعتمد بناء على دستور سنة 2014، فنحن نملك رئيس جمهورية منتخب يمنحه هذا الدستور صلاحيات محدودة جدا في مساعدة الأمة على الخروج من مآزقها وأزماتها السياسية الحادة، وقد جعل القانون الأعلى من عملية اختيار وتعيين رئيس حكومة أمرا سهلا بينما جعل عملية تغييره مسألة محفوفة بالمخاطر وشديدة والصعوبة، تماما كما منح البرلمان صلاحية المصادقة على تشكيل الحكومات ومنحها الثقة، بينما جعل من صلاحيته في المراقبة والتقييم والتحوير والمراجعة أقرب إلى الشكلية منها إلى الحقيقية، وأخيرا بدا النظام السياسي وكأنه اتخذ من الأحزاب السياسية مصدرا لصناعة الحكام، فيما حرمها من أي قدرة على مواجهة حالات «العصيان» فبمجرد تحول «قياداتها» إلى «أعضاء في الحكومة» يمتلكون حصانة شاذة وغريبة تجاهها.
ومن مظاهر «ورطة ديمقراطيتنا الناشئة» أيضا، هذه المفاهيم التي رسختها الأنظمة الفردية السابقة، من قبيل «الوزير التكنوقراط» و»الحكومة التكنوقراط»، التي تسببت عمليا في ضرب «العرف الديمقراطي» وأسقطت نتائج الانتخابات في الماء، على نحو ميع الحياة السياسية، وزعزع مبدأ «المسؤولية» أمام الشعب وحول المحاسبة الانتخابية إلى ضرب من ضروب العبثية، وهو ما لم يساعد النخبة على تطوير خطابها السياسي ويعينها على الخروج من عالم الصراعات الإيديولوجية البائسة إلى عالم التنافس على بناء البرامج التنموية الواعدة.
نحن إذا أمام ورطة متعددة الأبعاد وغير مسبوقة لديمقراطية ناشئة، لا يملك الديمقراطيون الحقيقيون مهما بلغت موهبتهم قدرة على وضع حلول سريعة لها، فيما لا يلعب عامل الوقت لصالحهم دائما، كما تبذل القوى غير الديمقراطية قصارى جهدها لتعفين الأوضاع أكثر، ربما أملا في ظهور «الجنرال المجنون» أو «المهدي المنتظر»، فأفضل بيئة للإجهاز على نظام ديمقراطي طري العود، هي هذه البيئة التي تغيب فيها «المشاريع السياسية» الواضحة والمقنعة بمقوماتها الثلاثة المعروفة، القيادة والرؤية والحوكمة، وتتساوى معها القوى المتعددة بحيث يعجز كل واحدة منها على فرض مشروعه.