منبــر: بعد تعليق مسار قرطاج 2 و خطاب رئيس الحكومة: من أجل تجمع واسع حول الأولويات الوطنية

بقلم: حبيب القزدغلي - أستاذ جامعي
شهدت البلاد منذ مطلع الأسبوع الحالي حدثين سياسيين هامين سيكون لهما بلا شك امتدادات وتطورات في الأسابيع

والأشهر القادمة. تمثل الحدث الأول في قرار رئيس الجمهورية يوم الاثنين 28 ماي تعليق مسار قرطاج 2. أما الحدث الثاني فتمثل في تصريح رئيس الحكومة في التلفزة الوطنية سهرة الثلاثاء 29 ماي. واعتبارا للتداعيات التي ستكون لهذين الحدثين على مستقبل البلاد على المدى القريب والمتوسط ولردود الفعل المنتظرة نرى من الضروري تناولهما بالدرس والتحليل والتقدم ببعض التصورات في ما يمكن أن يطرحاه من تساؤلات ومن مهام على عموم التونسيين بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم ، انتهاء بما يمكن أن يطرحه هذا الوضع من مهمات على قوى اليسار الوطني.

• مسار قرطاج 2 : رغم المجهود المبذول فانه لم يرتق الى مستوى التطلعات والرهانات
عاشت الطبقة السياسية والرأي العام عموما طيلة الأشهر الأخيرة على وقع الاجتماعات الماراطونية للجنة الخبراء الممثلين للأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية المشاركة في وثيقة قرطاج التي كان بادر بها رئيس الجمهورية في جوان 2016 عندما دعا عددا من الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية الي بلورتها ثم امضائها كأرضية تضمنت أولويات أساسية لتكون بمثابة المرجعية السياسية لحكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها السيد يوسف الشاهد منذ اواخر شهر أوت 2016. ورغم المجهود المبذول من طرف الحكومة والتحسن في عديد المجالات الأمنية والسياسية فان الصعوبات الاقتصادية التي مرت بها البلاد خاصة في شهر جانفي 2018 جعلت رئيس الجمهورية باعتباره الضامن للدستور ولوحدة التونسيين وأيضا صاحب مبادرة التجميع يعمد من جديد الى دعوة الأطراف السياسية والاجتماعية التسعة التي بقيت منخرطة في هذا المسار التوافقي الى الالتقاء والنظر في حزمة الاجراءات الجديدة والإصلاحات التي يمكن الاتفاق عليها والتي يمكن تضمينها في وثيقة جديدة. وفعلا وبعد عمل دؤوب في مستوى لجنة الخبراء استمر لعدة أسابيع منذ شهر مارس الماضي توصل المشاركون الى تحرير وثيقة تمت مراجعتها عدة مرات انتهت الى نص تضمن 64 نقطة حصل اجماع حول 63 من نقاطه وانقسام واضح حول النقطة الأخيرة المتعلقة بمن يتولى الانجاز : هل هي الحكومة الحالية بعد اجراء تعديلات على أعضاء فريقها والتنقيص من عددهم مع الابقاء على رئيسها السيد يوسف الشاهد أو اشتراط تغيير ربان السفينة قبل الامضاء على كامل النص. ورغم تضمين احتمالين بالنسبة للنقطة الأخيرة التي تم ترحيل النظر فيهما الى رؤساء الأحزاب والأمناء العامين للمنظمات الاجتماعية فان نص الوثيقة لم يقع الامضاء عليه إلا من خمسة أطراف في حين رفضت الأربعة المتبقية الامضاء عليه جاعلة من مسألة تغيير رئيس الحكومة شرطا أساسيا لا يمكن التنازل عنه. وبقطع النظر عما يمكن أن تفرزه قراءة مشهد الالتقاءات بين من قبلوا الامضاء او الذين امتنعوا ورغم المجهودات والمشاورات التي حصلت في نهاية الأسبوع الماضي لتقريب وجهات النظر فان كل طرف من الطرفين تمترس وراء موقفه وهو الأمر الذي جعل رئيس الجمهورية يعلن تعليق مسار قرطاج 2 ويقر بأن الظروف الحالية رغم دقتها لم تؤد الى انضاج موقف جماعي موحد تاركا الباب مفتوحا للعودة للتشاور في المستقبل متى اتفقت الأطراف المشاركة على ذلك. ورغم عدم التوصل الى اتفاق شبيه بما حصل في نهاية جويلية 2016 لا بد من التنويه بأهمية تواصل وجود رغبة بين الفرقاء السياسيين التونسيين للتشاور بينهم رغم الاختلافات الموجودة والمعروفة ولا بد من التأكيد على المكانة المركزية التي يحظى بها رئيس الجمهورية الأستاذ الباجي قائد السبسي بين جميع أطراف وثيقة قرطاج. وحري بنا أن نفتخر-كتونسيين وتونسيات- بهذا التمشي ونذكر ايضا بالحوار الوطني الذي رعته المنظمات الوطنية الأربع سنة 2013 , نذكر بهذا ونفتخر حين نشاهد أن الاخوة الليبيين أوالسوريين ... اصبحوا لا يجتمعون مع بعضهم البعض إلا في بلدان أخرى و يرفضون حتى الاقامة في نفس الفندق وأصبح يدير اجتماعاتهم رؤساء دول أخرى أو منظمات دولية ويرفضون حتى النظر الى بعضهم البعض. ودون التقليل من أهمية ما تم انجازه علينا ان نشير أيضا الى النقائص التي شابت مسار قرطاج 2 ونسعى جميعا وكل من موقعه الى تجاوزها متى تمت العودة لاستكمال هذا المسار الذي تم تعليقه مؤقتا. وهو ما يحتم الوعي بأهمية التخلص من كل ما قد يفهم أنه شروط مسبقة أو ابتزاز او تصفية حسابات. وعلينا الوعي أن أهمية النقاط التي طرحتها وثيقة قرطاج 2 لا يمكن أن تخفي أن نقاطا كبرى لم يقع التعرض اليها وهي تلك التي تدخل في خانة «الاجراءات الموجعة» التي لا بد من اتخاذها. ربما كان ذلك لتفادي احراج هذا الطرف أو ذاك ولكن المصلحة الوطنية تقتضي أن تتولى الأطراف المشاركة طرحها وتأكيد التزامها بالوقوف وراء الحكومة -أيا كانت- متى شرعت في تطبيقها. والسؤال الذي يطرح هل كان خطاب رئيس الحكومة مساء الثلاثاء تلقفا للحظة أم ينصهر في اطار مبادرة جديدة عنوانها شحذ النوايا من أجل «الوقوف لتونس» كما جاء على لسان السيد يوسف الشاهد؟

• خطاب رئيس الحكومة وتدقيق أولويات المرحلة
ان ظهور رئيس الحكومة في اليوم الموالي لإعلان تعليق مسار قرطاج يدل بوضوح أن الرجل ترك المجال واسعا وعريضا للمجهود البرنامجي الذي كان بصدد التبلور والانضاج في اطار مسار قرطاج 2 ولم يرد التشويش عليه بل نراه يبدأ بتثمينه وتبنيه وتأطير نقاطه ضمن توجهات كبرى ربما لم تكن واضحة بما يكفي من التركيز في اطار 63 نقطة . لقد أتى الخطاب في وقته ولم يأت متأخرا على عكس ما ذهب اليه البعض الذين أقلقهم أن يحاول رئيس الحكومة تاكيد الأولويات التي تقتضيها المصلحة الوطنية بعد أن كانوا قد صلوا عليه صلاة الجنازة. وفي الحقيقة فان البعض منهم – وهذا من حقهم- لم يقبلوا يوما بالتمشي التوافقي والمشاركة في المجهود الوطني من أجل الاسهام في حلحلة الوضع وإنقاذ البلاد من المخاطر المحدقة والتي تراجع بعضها نسبيا (الارهاب) في حين تعاظم بعضها الآخر (الصعوبات الاقتصادية رغم تحسن بعض المؤشرات التي أتى عليها الخطاب).
لقد اظهر السيد رئيس الحكومة انه ملتزم  بالتوجهات التي حددتها وثيقة قرطاج 1 وانه مستعد لإدماج التوصيات والبنود الواردة في وثيقة قرطاج 2 ضمن أولويات حكومته وانه متمسك بتوجهات حكومة الوحدة الوطنية وأعلن بان من أولويات المرحلة القادمة   الحرص على ضرورة  التوازن السياسي الذي اظهرت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة  بوادر اختلاله  لفائدة طرف سياسي واحد مما يهدد عملية الانتقال الديمقراطي برمتها وقد وجه رسالته مباشرة لكل مكونات الطيف الديمقراطي – او العائلة الوسطية - ومحتواها الدعوة الى توحيد الصف لكي تتضافر الجهود نحو بناء قوة وازنة قادرة على احداث التوازن في المشهد السياسي حتى لا تعاد تجربة 2011 من جديد.

هذه المهمة تستدعي شركاء من القوى التقدمية والديمقراطية يدركون تماما مسؤوليتهم التاريخية في تجاوز حالة التشتت والانقسام و تحييد مطامحهم الشخصية وحساباتهم الضيقة والتوجه بإخلاص نحو بناء قوة سياسية موحدة لها عمق اجتماعي وامتداد شعبي قادرة على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة بما يؤهلها لكسب ثقة الناخب والفوز بتمثيلية انتخابية تتناسب مع تمثيليتها في المجتمع. أما المهمة الثانية للمرحلة التي طرحها الخطاب فتتمثل في الاصلاحات الكبرى التي طال انتظارها والتي  يتطلبها التوازن الاقتصادي والاجتماعي للبلاد والمرتبطة بوضعية الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية وصندوق الدعم . ان هذه الاصلاحات تستوجب شركاء اجتماعيين لا بديل عنهما وهما اتحاد الشغل واتحاد الاعراف ولا بديل عن سياسة الحوار والتفاهم والتوافق لكي نضمن النجاح لمردودية هذه الاصلاحات بعيدا عن سياسة لي الذراع . والتاكيد على سياسة الحوار الاجتماعي المنظم والعقلاني يهدف الى بعث الثقة وتامين كل عوامل النجاح لهذه الاصلاحات . أما المهمة الثالثة التي جعلها السيد يوسف الشاهد جزءا من برنامج حكومته فهي الحرب على الفساد وهو يدرك جيدا ان كل المتاعب التي واجهتها حكومته هي في جزء منها ناتجة عن التزامها بهذه المهمة و اكد على ان هذه المهمة اصبحت سياسة دولة . لقد أعلن صراحة  للأوساط التي تأمل او تتمني او تعمل على الاطاحة بالحكومة   التزامه بمواصلة تضييق الخناق على الفاسدين حين قال « يخطئ من يعتقد ان الاطاحة بهذه الحكومة سوف يوقف الحرب على الفساد» . هذه المواقف الجريئة لرئيس الحكومة اثارت شعورا من الاحترام لدى قطاعات واسعة من الرأي العام في زمن بلغت فيه شيطنة السياسيين مداها – عن حق احيانا وبمبالغة احيانا اخرى – في حين عمدت بعض الأصوات الى التشكيك في النوايا ومحاولة بعث البلبلة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية وهي بذلك تؤكد انصهارها في مناخ سياسي ملوث بكل انواع الانتهازية والحسابات الضيقة ودوافع المصلحة الخاصة. لقد نجح رئيس الحكومة في تحديد الاحتياجات والأولويات الوطنية المطروحة أمام البلاد والاصداع بها وكانت له الشجاعة لمصارحة الشعب والاشارة الى المعوقات التي تعطل انجاز هذه المهام والتي أصبحت شأنا وطنيا وليس حزبيا فقط. لقد اكد انه رجل دولة يحمل مشروعا وطنيا تقوده مشاعر الوفاء للمشروع الوطني التحديثي لدولة الاستقلال. وهو الأمر الذي سيطرح من جديد مسالة تموقع قوى اليسار  الوطني في هذه المرحلة التي تمر بها بلادنا. 

• مكان اليسار الوطني ضمن اوسع القوى الحريصة على تحقيق الأولوليات الوطنية
مرة أخرى نذكر بأن مراحل الانتقال السياسي من طور الاستبداد الى الديمقراطية كالتي تمر بها بلادنا لا تساس فقط بمنطق سلطة/معارضة أو بالاحتكام فقط الى نتائج الانتخابات ونؤكد أيضا أن ما نعنيه باليسار الوطني هي مجموع الأحزاب السياسية والقوى والشخصيات ذات التوجه الاجتماعي والتي ترى أن انتصارها للبعد الاجتماعي واليساري وحرصها على استقلاليتها السياسية والتنظيمية ودفاعها عن الطبقات الشعبية من نتائج الاقتصاد المعولم لا يمنعها من ضرورة البحث عن الالتقاءات مع غيرها من القوى الوطنية والديمقراطية بل العكس هو الصحيح. ان انتصار اليسار الوطني للقضايا الاجتماعية يفرض عليه البحث والنضال من أجل اقامة أوسع التوافقات مع القوى التي تشاطره الرأي حول المهمات الوطنية العاجلة وفي مقدمتها تلبية الرغبات ألأساسية للمواطنين وضمان أمنهم والاستقرار السياسي لبلادهم والحفاظ على سيادة دولتهم وتوفير ظروف انجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي والسلمي عبر تركيز كل الهياكل والقوانين الضامنة لقيام حياة ديمقراطية.

ان الدعوة لكي يسلك اليسار الوطني هذا التمشي التوافقي هو الخيار الذي نراه الأمثل لبلادنا في المرحلة الحالية. وهو لا يعني حكما بالتخوين أو الاقصاء على القوى اليسارية الأخرى التي اختارت المعارضة «الراديكالية» ورفض كل الخطوات الجزئية في انتظار الحل الثوري الكامل والشامل.
ان الوضع الناجم عن تعليق مسار قرطاج 2 يدعو اليسار الوطني الى النظر في الحصيلة التي تم انجازها (حزمة التوافقات الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنتها وثيقة قرطاج 2) والاستعداد الطبيعي للإسهام في كل مجهود وطني لإنقاذ البلاد من الأخطار التي مازالت تهددها عبر الانضمام لكل المبادرات التي تجعل من الأولويات الوطنية العاجلة أرضية مشتركة بينها والاستجابة لكل الدعوات الصادقة من أجل تونس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115