ظروف إجرائه:
هو التحوير الثالث خلال سنة من تشكّل حكومة الوحدة الوطنية، وهو التحوير الذي يؤسّس لحكومة ثامنة خلال ست سنوات (حكومتان مع محمد الغنوشي، حكومة حمادي الجبالي، حكومة علي العريض، حكومة المهدي جمعة، حكومة حبيب الصيد، حكومة وحدة وطنية (1) وحكومة وحدة وطنية (2).
ومهما اختلفت القراءات فالثابت أن الاستقرار السياسي يكاد يتحول إلى حلم منشود، المشهد السياسي مهتزّ داخليا وتأثيراته سلبية في علاقة بالمؤسسات المالية الدولية وبالجهات الداعمة.
تحوير يُجرى في ظل اختلال التوازنات المالية بأنواعها الأمر الذي ورد في بيان رئيس الحكومة بالإضافة إلى ما تشهده بعض الجهات والقطاعات من مظاهر توتّر اجتماعي.
تحوير يجري في ظل الإعداد لميزانية 2018 والتي عليها أن تتضمن مواجهة الصعوبات المحتملة 2018 والجزء المرحّل من ميزانية 2017 التي استحال تجاوزها.
تحوير شمل عددا من الوزارات التي منها وزارات السيادة وأعادت إلى المشهد السياسي وزراء اشتغلوا مع نظام بن علي.
تحوير أكّد خلاله رئيس الحكومة أنه اعتمد الكفاءة مقياسا رئيسيا في كل ما قام به من تحويرات.
تحوير انبثقت عنه حكومة نالت ثقة مجلس النواب ولم يحترز على أعضائها لا المنظمات الاجتماعية: (الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين...) ولا أغلب الأحزاب باستثناء الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي.
تحوير تم خلاله إحداث وزارة «متابعة الإصلاحات الكبرى» وأحيلت لمستشار واكب كل الحكومات مستشارا قارا منذ 2012 وكان له الدور المحدّد في التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية وفيما تعيشه تونس اليوم من «رقيّ اقتصادي».
تحوير وزاري انبثقت عنه حكومة اختار لها رئيس الحكومة عنوان «حكومة حرب واختار لها رئيس الجمهورية حكومة الأمل الأخير».
تلك إذا أهمّ ملامح الظروف التي حفّت بالتحوير الوزاري الأخير أسال وسيسيل الكثير من الحبر خصوصا في ظل ما ينتظر الحكومة من تحديات متعدّدة، وفي إطار استقراء الرسائل التي بعث بها هذا التحوير.
فما هي الدوافع وماي الانعكاسات المحتملة؟
قراءة سوف نحاول فيها عدم التركيز على الأشخاص بقدر سعينا إلى محاولة استقراء المسارات والدوافع والخلفيات، في علاقة بما ورد من توظيف في الجزء الأول من هذا المقال.
التحوير والظروف الإقليمية والمحلية:
يصعب جدا فهم اللجوء إلى بعض الأسماء في التحوير الوزاري دون الوقوف عند ما تشهده الساحة العربية والمحلية من أحداث وتطوّرات:
إن انتصار النظام السوري في حربه على داعش وداعميهم على أهميته إثبات سيادة سوريا، وبالنظر إلى استمرار الحرب في اليمن...جزء من أحداث يعتمدها البعض للمحاججة على فشل ما يُسمّى بالربيع العربي وللتنظير للعودة إلى الأنظمة القديمة.
إن الفشل في تحقيق أهداف الثورة محليا، واهتراء المشهد السياسي وعدم التقدّم في تحقيق الانتقال الديمقراطي في بعده الاجتماعي وتراجع نسب النموّ وانخراط الجميع، خطأ، أحزاب حكم ومعارضة في اعتماد سنة 2010 سنة مرجعية في الحديث عن نسب النمو والميزان التجاري والانتاجية... كلها عوامل دفعت نحو بداية رسكلة النظام القديم من خلال اختيار شخصيات اشتغلت مع نظام بن علي، المسار الذي يعكس التخلي عن مبدإ أساسي من مبادئ الثورة: لا يصنع الجديد بآليات النظام القديم الأمر الذي عكسه اعتصام الرحيل في القصبة (1 و2) ولكي لا يفهم القصد مسّا من الأشخاص، حريّ بنا التأكيد على ألاّ احتراز على ذوات هؤلاء الوزراءوغيرهم ممّن حكموا زمن بن علي بل على العكس علاقاتي بالكثير منهم ممتازة « وستظلّ».
مقياس الكفاءة:
تركيز رئيس الحكومة على مسألة الكفاءة مسألة فيها نظر:
الإقالات السابقة كانت واحدة بسبب عدم احترام «النواميس» ولا حديث فيها عن غياب الكفاءة (الوظيفة العمومية) وكانت الثانية بسبب تصريحات حول انزلاق الدينار وهي تصريحات تأكدت بشكل واضح (المالية) وأما الثالثة فبسبب قضية من 2014 تحرّكت بقدرة قادر في 2017 !!!
التحوير شمل وزارة الداخلية ووزارة الدفاع في مرحلة يشهد فيها الجميع بالتقدم في مقاومة الإرهاب!!!
إحداث وزارة لمتابعة الإصلاحات الكبرى:
حدث له دلالات ستبرز انعكاساتها لاحقا للأسباب التالية والتي أرجو ألا تفهم من باب التحامل على أي كان:
الإصلاحات المقصودة والتي وردت في بيان رئيس الحكومة كلها إصلاحات وثيقة الصلة بالأوضاع الاجتماعية: المؤسسات العمومية، الضمان الاجتماعي، الوظيفة العمومية، الأجور، الأداءات الجبائية... إصلاحات سوف يتابعها مسؤول تابع كل المحاولات الإصلاحية منذ 2012 وبدون انقطاع وشارك في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وهو الذي يتعامل مع الواقع من خلال تصريحاته بمنطق اقتصادي أحادي الجانب.
إن مقاربة تقوم على مسار تشاركي مع المنظمات المعنية لن تؤدي إلى حلول، فالإعلان عن الإصلاحات تُعدّ داخل المكاتب المغلقة وتسقط على الأطراف المعنية لن تؤدي إلا إلى الرفض وهي السياسة التي جُرّبت سابقا والتي أدّت إلى أزمات تاريخية عاشت خلالها تونس أتعس مراحلها التنموية (أزمة 1978 - 1984...) وهي الوقائع التي لا يمكن أن يقرأ لها
حساب من عاش خارج تونس أو من تربّى في البنوك الإفريقية والدولية...
يخطئ من يعتقد أن عدم احتراز بعض القيادات النقابية على التحوير الأخير أو الصمت عن التحوير المتعلق بالوظيفة العمومية أو الدعوة إلى تغليب صوت «العقل والحكمة» أحداث تنبئ بقبول الاتحاد بالمقاربة المعتمدة في الإصلاحات وتصريحات بعض القيادات حول سياسة الانتداب والصناديق والمؤسسات العمومية... يقيم الدليل على ذلك.
حكومة حرب:
من شعار «ناقفوا لتونس» إلى شعار «إن الفلاسفة وقفوا عند تأويل العالم، وجب تغييره إلى حكومة حرب».
السؤال الذي تردّد أخيرا وما زال يتردّد، هو الحرب على من؟؟
الحرب على الإرهاب لم تبدأ اليوم فقط!!!
الحرب على الفساد ظننا أنها انطلقت مع الإيقافات الأخيرة وأعتقد أن من لديه الإرادة وإذا توفّر له الدعم الكافي وهو يخوض حربا على الفساد مدعوّ ضرورة إلى أحداث وزارة مهمتها الحوكمة ومكافحة الفساد!!! لماذا لم تُبعث هذه الوزارة في التحوير الأخير؟ سؤال طُرح وأجاب رئيس الحكومة باعتماد حجّة أن كل الوزارات معنية بمكافحة الفساد!!! هكذا!
والإصلاحات الكبرى أليست شأنا موزعا على كل الوزارات؟ كيف تحدث وزارة لمتابعة الإصلاحات ولا تحدث وزارة لمكافحة الفساد؟ الإصلاحات أولوية مطلقة؟؟؟ الا تحتاج الحكومة إلى هيكل يرسم سياسة إصلاحات عميقة تقطع منافذ الفساد؟ إلى تشريعات ظلت معطلة إلى الآن؟ منها مشروع قانون الإثراءغير المشروع؟
ما لم تكن حربا على الإرهاب لأنها معلنة وما لم تكن حربا على الفساد إذ لا شيء يوحي في التحوير بانتهاج هذه السياسة؟ ما هي الحرب المقصودة؟؟ الحرب على كل من يرفض تبعات الإصلاحات الاقتصادية الكبرى؟؟؟
إننا في مواجهة مرحلة من أصعب المراحل التي تمرّ بها البلاد وإن الفشل في التجاوز لسبب أو لآخر سيدفع بالضرورة إلى المجهول وسيقضي على ما تبقى من أمل في إنقاذ المرحلة الانتقالية.
إجماع حول توصيف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتباين في الحلول يصل حدّ التناقض الذي إذا استمر لن يؤدي إلا إلى التصادم؟
الحكومة متّجهة نحو الخصخصة مستعرضة الأسباب والدوافع واتحاد الصناعة والتجارة يؤيّد التمشي ويدعمه بينما يعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل المسّ بالقطاع العام خطا أحمر.
الحكومة تصرّح باتفاق حول ركائز إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية وعن اتفاق وشيك في سبتمبر وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل في تصريح للشروق تنفي ذلك وتعتبر الاتفاق في شهر سبتمبر معجزة وعهد المعجزات قد ولّى.
الحكومة تتّجه في مشروع قانون المالية الجديد إلى الترفيع في الأداءات والتحركات انطلقت من هنا وهناك؟؟؟
إلى أين تتجّه ؟؟ ما هي الآفاق؟
إن المحظور هو أن الفشل في تحقيق الديمقراطية في بعدها الاجتماعي يدفع نحو التراجع عن الديمقراطية في بعدها السياسي وهي نفس السياسة التي اعتمدها بن علي!!! تعدّدت الأراء وتنوعت المقترحات: منهم من يدعو إلى المرور بقوة (passage en force) نحو الإصلاحات الموجعة وفي هذا مخاطر جسيمة ومنهم من اعتبر الأزمة في النظام السياسي وهو رأي فيه نظر، لأن الأزمة ليست في نوعية النظام بل في الأحزاب المكونة للمشهد السياسي سواء الحاكمة أو المعارضة من حيث مناهج وأسلوب التعامل مع قضايا مجتمعنا.
نحن إزاء مشهد لم ينجح فيه الجميع إلا في تبرير أخطائهم وفي ايجاد تفاسير لها ولم نتدرّب جميعا على سياسة الاعتراف بالخطأ والبحث له عن تفسير للوقوف عند أسبابه وإصلاحها.
ممثلو الحكومة يدافعون عنها أخطأت أم أصابت ويبررون كل ما تُقدم عليه من ممارسات والمعارضة ترفض كل ما يصدر عن الحكومة حتى إذا اقتربت من الصواب.
يصعب جدا النجاح في الانتقال الديمقراطي مهما كان النظام السياسي ما لم تتعود الأحزاب الحاكمة على الشجاعة في الاعتراف بالخطإ وبالإيمان بأن من لا يجرؤ على أن يقول أخطأت لا يستطيع أن يقود، وما لم تتعوّد المعارضة على تثمين مواطن الصواب في سياسة الحكومة: لا المرور بقوة يخدمنا ولا تغيير النظام السياسي ولا التراجع عن الحريات وإنما
الإسراع فيما تبقى من الوقت إلى:
اعتماد المسار التشاركي في معالجة القضايا الحارقة، بعيدا عن اتخاذ قرارات داخل المكاتب المغلقة وعرضها على الأطراف الاجتماعية.
من الأخطاء تأخر انطلاق المجلس الوطني للحوار الذي كان بإمكانه تنظيم الحوارات الاقتصادية والاجتماعية والوصول إلى حلول توافقية علما وأن فكرة حوار اقتصادي واجتماعي طُرحت مع إحداث الكامور ومع بعض الاحتجاجات في المناطق الأخرى بالتزامن مع فكرة خطاب رئيس الدولة ولكنها رفضت آنذاك بدعوى أن كل حوار يهدف إلى إسقاط الحكومة!!!
إن الحديث عن أهداف 2020 ضمن تمشّ إصلاحي استشرافي يجب أن تتوفّر له شروط النجاح، وهي الشروط التي لن تتوفر ما لم تتقدم حلول آنية لسنة 2018 وما تبقى من سنة 2017.
خطوات مطلوبة وبصفة ملحّة في شكل رسائل طمأنة تؤسس لحدّ أدنى من الاستقرار الاجتماعي الضامن لصنع الثروة والاندفاع إلى العمل.
قبل التوجّه إلى صندوق النقد الدولي، واللجوء إليه في حالات الضرورة، لا بدّ من تعبئة الموارد الداخلية:
الديون الجبائية
الديون المتخلدة بذمة الموردين
مراجعة اتفاقيات التجارة طبقا لما تم مع بعض البلدان وخاصة مع تركيا – وذلك عكس ما يروّج له رسميا- حيث تمكّن اتفاقية التجارة الدولية الدول الأعضاء من حق مراجعة بعض المواد في حالات الأزمة الاقتصادية
الإسراع بتأجير الأراضي الدولية للشباب المعطل عن العمل في الجهات بإجراءات ميسّرة
إلى جانب الهيئة الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد، ومن أجل التعبير عن إرادة فعلية لمكافحة الفساد في إطار سياسة فيها الجانب التشريعي الذي يضمن المحاسبة إعدادا لمصالحة فعلية قائمة على أسس: المساءلة والمحاسبة لا بدّ من أجل كل ذلك من إطار أو هيكل سياسي رسالة واضحة للجميع.
في ظل انسداد آفاق الانتداب وتزايد عدد المعطلين عن العمل آنَ الأوان للانطلاق في مناقشة بعث صندوق للبطالة وعن مصادر تمويله باعتباره من الحقوق الاجتماعية المنصوص عليها في اتفاقيات العمل الدولية.
لم نسمع في بيان رئيس الحكومة عن القطاع غير المنظم وعن متابعة من تحيلوا على الأداءات الديوانية في عهد النظام السابق باعتماد ما توفر من معطيات.