منبر: قــرطــاج لــن تحتــرق ( جوابا على مقال حرب طروادة التي لن تقع )

« بقلم الاستاذ: محمد الفاضل محفوظ» «العميد السابق للمحامين بتونس»
«والقيادي بحركة مشروع تونس»

طالعت بكل اهتمام المقال المنشور بالمنبر السياسي بصحيفة «المغرب» الغراء بتاريخ 20 /08 /2017 بقلم السيد عبد الحميد الجلاصي والذي اختار له من العناوين» «حرب طروادة التي لن تقع» .
وبقطع النظر عن توفيقه من عدمه في اختيار العنوان في علاقة بمضمون المقال فقد نجح في استفزازي خاصة اني احسب نفسي من المطلعين ولو قليلا على حرب طروادة كما جاءت بالالياذة والاوديسة لصاحبهما هوميروس وبعض المؤلفات والاشرطة السينمائية المتفرعة عنها ولعل ابرزها المسرحية الشهيرة لصاحبها جون جيرودوJean Giroudoux والتي اختار لها نفس العنوان تقريبا باللغة الفرنسية La guerre de troie n’aura pas lieu .

كما لفت انتباهي تغييب صفة كاتب المقال وهو القيادي البارز في حركة النهضة ولست ادري ان كان ذلك مقصودا وتعففا من ابراز الصفة ام انه اختيار من رئاسة تحرير الصحيفة .
اما عن المقال في حد ذاته فقد جاء على شكل نقاط من 1 الى 8 وخاتمة ، اهم ما جاء فيها اننا : لم نتعمق في النقاش الفكري ولو فعلنا لوجدنا ان الاختلافات بيننا اقل بكثير مما نظن .
ولو قمنا بذلك فان « العقلاء لن يسمحوا بحصول حرب جديدة في طروادة».

ومروري الى الخاتمة مباشرة هو في الحقيقة تفاعل مني لتعميق النقاش الفكري واتفاق مع كاتب المقال حول ضرورة اعتماد بيداغوجيا متكاملة سواء لقراءة الواقع السياسي بتونس او لتصور مستقبل هذا الواقع في السنوات القادمة .
نأتي الان الى النقاط الثماني الواردة بالمقال والتي يمكن اختزالها حسب نظرنا في افكار جاءت في قالب مقولات لصاحب المقال وهي اساسا :

ان الثورة حكم مسارها آلية التخريب والتدافع بين ارادات التقدم ومقاومات الانتكاس، بحيث ان القديم يرفض الموت ويتاخر الجديد عن الولادة .
ان المسار السياسي هو المفتاح والمدخل لكن مسار انتاج النخب السياسية بطيء لعجز او عدم رغبة الاحزاب الكبرى على الانفتاح ونخبوية العروض الحزبية الجديدة .
ان المسار الاجتماعي يتخلف عن المسار السياسي وان لا ثورة حقيقية دون ثورة ثقافية .

ان المزاج الوطني هذه الايام يدفعنا الى شحن ايديولوجي مراكم بوهم او بواقع التزلف الى السلطة القائمة ووهم احتكار الحداثة فتنصب الجهود على ابتزاز المنافس او الخصم وحصره في الزاوية ونصب محاكم التفتيش.
وتخلص صاحب المقال في الاخير معرجا على موقف حركة النهضة التي اعتبر المنجز التجديدي فيها عاليا جدا لكنها ارتكبت خطأ كبيرا بقبولها بمنزلة المتهم .
وليسمح لي صاحب المقال بهكذا اختزال لافكاره راجيا ان لا اكون قد حرفت مقاصده .

والحقيقة ان جملة تلك الافكار يمكن ان نتفق فيها اذا ما تناولناها بطريقة نظرية بحتة واعتقادي ان العقلاء لا يختلفون في توصيف ما مرت به تونس في السنوات الاخيرة اثر ثورة 17 ديسمبر ـ 14 جانفي .
لكن ، و بما انه توجد دائما وابدا لكن ، اعتقد ان صاحب المقال قد جانب الصواب لا في توصيف امراضنا بل في مروره مرور الكرام على اسباب تلك الامراض التي نعاني منها الى حد هذه الساعة والتي عاقت عبورنا الى الافضل المنشود .
ولو قمنا بفحص دقيق استعارة من القاموس الطبي او بتفكير عميق على حد تعبير صاحب المقال لاكتشفنا ان تلك الامراض لم تكن قدرا محتوما بل تعود الى تصرفات واعمال واقوال سياسيينا ونخبنا ومثقفينا وخاصة منهم من كان في مقدمة المشهد السياسي .

ولنتناول معا فكرة بطء انتاج النخب السياسية ، فلئن عزا صاحب المقال ذلك حسب اعتقادنا الى ان الثورة حكم مسارها آلية التجريب والتدافع، فاننا نعتقد ان ذلك توصيف اكثر منه تسبيب .
اذ لا يختلف اثنان في ان ما حدث بتونس ابان الثورة هو اقرب الى الحركة الخلاقة منه الى ثورة بالمعنى الاكاديمي للكلمة لغياب القيادة وغياب المشروع .

فالشعب يريد اسقاط النظام لكنه لم يستعد لنظام اخر والشعب يريد الشغل والحرية والكرامة الوطنية دون ان يوفر لا هو، ولا نخبه مشروعا متكاملا تتحقق اهدافه بمضامين واليات دقيقة .
وهنا مربط الفرس في البحث عن اسباب بطء وحتى عجز النخب السياسية في القيام بدورها على الوجه الاكمل .

واعتقادي راسخ في هذا المجال ان نخب ما بعد 14 جانفي هي في جانب منها نفس النخب التي اما وقع استقطابها من النظام السابق في سنوات ما قبل الثورة او هي في جانب اخر ، النخب التي كانت تتفاوض مع النظام على اساس تحقيق بعض المكاسب دون تشكيك في شرعيته او هي النخب التي لئن كانت معارضة للنظام الا ان معارضتها انحصرت في بعض الفضاءات والمنابر التي لا تصل الى الشعب والى العمق الجماعي .

علما وان الشعب نفسه غيب من كافة اشكال الممارسة السياسية الحقيقية التي تعمق الوعي ، بل طلب منه لسنوات ولعقود تاثيث المشهد السياسي باليافطات والشعارات لا اكثر ولا اقل .

وللحقيقة والتاريخ فان ما اتسمت به فترة نظام بن علي هو انها بقدر انتاجها لحاملي الشهادات العليا فانها لم تنتج الا النزر القليل من المثقفين والمبدعين والمفكرين والسياسيين الجدد المؤثرين في مجرى التاريخ وقد يكون ذلك سببا من اسباب هيمنة وسيطرة نخب من زمن بورقيبة .
وهذه النخب مع احترامنا لماضيها ولما قدمته للمشهد السياسي فانها بقيت اسيرة الصراعات الايديلوجية العقيمة للسنوات الستين والسبعين التي تجاوزها الزمن والتاريخ والاحداث .

كما انها استاثرت بالمشهد السياسي دون ان تشرك الكفاءآت الجديدة والرؤى المتجددة للواقع السياسي ، وحتى ان تم ذلك فباحتشام كبير وحذر شديد ربما لبراغماتية النخب الجديدة وعدم انصهارها بالكامل في الصراعات القديمة التي لم تجن منها شيئا حسب اعتقادها .
وقد يفسر ذلك عزوف شبابنا عن الشان العام الان رغم انخراط البعض منه في المجال المدني .

فاذا كان الامر كذلك لسائل ان يسأل من يتحمل مسؤولية بطء الانتاج الفكري والسياسي ؟

المسؤولية في اعتقادنا هي جماعية ولكن النسبة الكبرى يتحملها ساسة البلاد منذ 14 جانفي الذين لم يحسنوا ، لا القطيعة مع النظام السابق ولا التفاعل معه وتارجحوا بين هذا وذاك دون هدف استراتيجي واضح .
والقاسم المشترك بينهم ، وهو الوحيد في اعتقادي، هو كيفية احتلال مواقع السلطة الجديدة من جهة وكيفية اختراق المنظومة القديمة من جهة اخرى .

لكن لئن كانت تلك الاهداف مشروعة في المنطق السياسي المحض ( السياسوي ) فانها غيبت الاهداف الاستراتيجية للشعب التونسي ككتلة واحدة .

وهذه الوضعية هي التي ادت في اعتقادنا الى حالة سريالية في بعض المشاهد لن اتاخر في تعدادها ، لكني اجيب من خلالها على مقولة صاحب المقال بان « القديم يرفض الموت والجديد يتاخر عن الولادة.

فكيف يمكن للقديم ان يموت وهو يتغذى الى حد الساعة بالماضي البعيد والقريب بل ويستحضر في بعض المخابر وصفات وادوية جنيسة هي من وحي اللحظة تطيل في عمره من جهة ويستعملها في تفاعل معه كمضاد حيوي لبقائه اكثر ما يمكن في السلطة ؟
وكيف للجديد ان لا يتاخر عن الولادة «والاطباء» يرفضون الالتجاء الى الولادة القيصرية رغم معاناة الام وصراخها والمها ، كل ذلك خوفا من الخطأ الطبي الذي قد ينتج عن الجراحة .
ذاك هو وضعنا في تونس واعتقد ان هذا التشبيه اقرب الى الواقع من استعارة صاحب المقال حول حرب طروادة التي وقعت او التي لا يجب ان تقع .
بل ان مناورات ودسائس البلاطات والامبراطوريات المتعاقبة على مر العصور هي الاقرب الى واقعنا مع الاسف الشديد واستحضر في هذا المجال ما قامت به « اقربين Agripinne ابنة اخ امبراطور روما كلود Claude لازاحة ميسالين Messaline زوجة الامبراطور بقتلها من اجل ان تتزوجه ( رغم ان ذلك محرم دينيا ) وتزوجها اثر ذلك لابنها نيرون

Neron من ابنة الامبراطور لاستبعاد بريتانيكوس Brittannicus الوريث الشرعي للامبراطور حتى يخلو المجال لنيرون .
وقد تم الامر كذلك الا ان هذا الاخير انتهى به المطاف الى قتل والدته اقربين التي كانت سببا في توليه الامبراطورية .

والامثلة عديدة ومتعددة في تاريخ الحضارة الانسانية التي يمكن ان نعتبر منها دون ان نتماهى مع احداثها خاصة منها الدموية .
وفي هذا الاطار قد تتنزل مقولة صاحب المقال المتعلقة بالشحن الايدولوجي الذي قد يؤدي بنا الى ما لا تحمد عقباه .

والسبيل الوحيد في اعتقادنا لتجنب تلك النتيجة يتمثل في الايمان بوعي وبعمق بمفاهيم الديمقراطية وحرية التعبير وحق الاختلاف كممارسة ميدانية حقيقة مجسدة في ارض الواقع لا كشعارات فقط .
واعتقادي ان مسؤولية النخب السياسية والمدنية كبيرة جدا في هذا المجال لانها من المفروض ان تكون الماسكة بآليات بيداغوجية وتصورات تربوية هي التي تكون محل الوفاق والتوافق والاتفاق .

ولعلني لا ابالغ ان قلت ان الوفاق البيداغوجي التربوي هو الذي يجب ان يحل محل الوفاق السياسي الذي وصل الى منتهاه بعد ان ادى الدور التاريخي (ايجابيا او سلبيا) في لحظة معينة من تاريخ تونس .
ولعل ما يعاب على حركة النهضة في هذا المجال ، ليس قبولها بوضعية المتهم كما جاء في المقال ، بل لعبها دور الضحية بمناسبة وبدونها .

ولعب دور الضحية كان في بعض الاحيان ورقة سياسية واضحة اكثر منها موقفا مبدئيا و اخلاقيا من مجريات الاحداث، دليلنا في ذلك ما سمي ظاهريا بالتنازلات التي هي في الحقيقة مناورات لمزيد التوغل في الحكم والاقتراب من مواقع السلطة الادارية والترتيبية والسياسية مع تحميل نتائج ذلك الى من تحالف معها سواء بمناسبة انتخابات التاسيسي في 2011 او بمناسبة انتخابات 2014 .

واخيرا وليس باخر فاني اتفق مع صاحب المقال في ما ذهب اليه بان المسار الاجتماعي تاخر عن المسار السياسي لكن ما يمكن اضافته في هذا المجال ان الحكومات المتعاقبة والتي تحملت حركة النهضة المسؤولية فيها لم تول هذا الجانب الاهتمام الكافي .
وكان من المفروض في اعتقادنا ان يواكب المسار الاجتماعي ببعديه الاقتصادي والثقافي التحولات السياسية السريعة ، الا ان ذلك لم يحدث وظل المشهد الاجتماعي والثقافي في تونس بعد 14 جانفي والى يوم الناس هذا شبيها بمشهد سنوات ما قبل الثورة

ولا تغرنا غزارة وطفرة المواد الاعلامية والاذاعات والتلفزات والمواقع الاجتماعية والتي لئن نوعت المشهد شكلا فان المضمون لم يتطور بل يمكن الحديث حتى عن تراجع قيمي ونوعي وابداعي في شتى المنتوجات الاجتماعية والثقافية .

وهذا التراجع ينحرف بنا شيئا فشيئا نحو الاسفاف والابتذال والعنف اللفظي فتجد فريقا يحصر فريقا آخر في الزاوية ليتهمه بالكفر والالحاد والتفسخ الاخلاقي والابتعاد عن تعاليم المولى سبحانه وتعالى وتجد الفريق الاخر يقوم بنفس الفعل بمفردات ومقولات اخرى متمثلة في اتهامه للاخرين ممن يختلفون معه بالتزمت وعدم الانفتاح وحتى العمالة لتنظيمات عالمية طائفية مغلقة .

وبين هذا وذاك يصطف المواطن وراء احد الموقعين الذي يراه اقرب الى هواه دون ان يتسلح بالمعرفة وبالعلم ودون ان تقوم النخب بواجبها في تقريب تلك المعرفة منه ، فتغلب على مواقف المواطن التسرع في الحكم والانطباعية المبالغ فيها في بعض الاحيان الى حد الانسياق وراء التطرف والعنف .
ورغم كل ذلك فقد عرف الشعب التونسي كيف يتجنب العنف المؤذن بالخراب ونجح في التعامل مع مجريات الاحداث حتى و ان كانت شديدة الوقع عليه مثل الاغتيالات السياسية .

ودورنا اليوم اكثر من اي وقت مضى ان نتوكل على الله والعمل على اعمال الفكر ونشر المعرفة بيننا وتعميمها قدر الامكان من اجل ابداع اخر في شتى المجالات .

فقرطاج ابدعت في خلق مؤسسات ومفاهيم ومصطلحات يعتقد خطأ انها ترجع الى اثينا وقرطاج انجبت منذ نشأتها الى يوم الناس هذا العلماء والفقهاء والفلاسفة والمفكرين والمثقفين والمناضلين وهي قادرة اليوم ان تلد من جديد العقلاء لتفادي الاحتراق والتطرف والعنف.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115