وكالة موديز Mody’s وهي الوكالة الوطنية المعروفة بتحاليلها ومواقفها المحافظة التخفيض في ترقيم مئات المستندات المالية (Titres financiers) المرتبطة بالقروض السكنية التي قدمتها البنوك الأمريكية لحرفائها-ويعتبر هذا القرار تغييرا هاما في موقف وكالات الترقيم السيادي والتي دعمت هذا النوع من القروض المسمى في الولايات المتحدة الأمريكية Subprimes وكانت ترقيماتها في اغلبها ايجابية مما ساعد على التطور الكبير الذي عرفته هذه المنتجات المالية وستعرف هذه الوكالات فترة حرجة والكثير من النقد لا فقط من الرأي العام بل كذلك من المسؤولين خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية نظرا لتغاضيها عن المخاطر الكبيرة التي تمثلها هذه السنوات الجديدة وسيضع هذا التغيير في مواقف وكالات الترقيم السيادي لهذه السندات بداية التساؤلات حول وضع الأسواق المالية.
وستكون صائفة 2007 نقلة انطلاق بعض التطورات والمؤشرات التي تنذر بأزمة كبرى على الأبواب- وبعد قرار التخفيض في ترقيم السندات المالية من قبل وكالة Mody’s عرفت نفس هذه الصائفة إعلان بنك هام في أمريكا وهو بنك Bear Stearns دخوله في مرحلة مالية حرجة بسبب خسائره في قطاع السندات العقارية وقد أكد هذا الإعلان أن بنوكا الكبرى متورطة في الأزمة المالية وبالتالي ستشهد فترات حرجة للتخلص من هذه الأزمة.
وستعرف نفس هذه الصائفة تطورات أخرى ستؤكد حالة التوتر التي يعيشها القطاع المالي – فيوم 9 أوت 2007 سيعلن البنك الفرنسي BNP Paris bas إيقاف السحب من ثلاث صناديق مالية – وهذا القرار هو مؤشر إلى ان أزمة المالية القادمة لا تقتصر على كبرى البنوك الأمريكية بل ستمتد كذلك إلى كبرى البنوك الأوروبية ولعل في المؤشر الأخير الذي أود الإشارة إليه هو إفلاس البنك الجهوي IBK في نفس الصائفة أكثر من إشارة وذو أهمية كبرى –فحتى البنوك الألمانية وخاصة البنوك الجهوية والمعروفة بفلسفتها وسياساتها المحافظة لم تنج من الأزمات المالية وانخرطت هي الأخرى في المغامرة المالية التي ستهز أركان الاقتصاد المالي العالمي وستضعه على حافة الانهيار.
إذن بدأت المؤشرات منذ عشرة سنوات وبالتحديد في صائفة 2007 لتشير إلى انخرام النظام المالي العالمي ودخول اكبر البنوك العالمية في وضعية مالية حرجة بسبب تراجع السندات العقارية – إلا انه وبالرغم من هذه المؤشرات وتضاعفها خلال الأشهر القادمة فإنها لم تضعف من ثقة المستثمرين المالية والفاعلين الاقتصاديين والماليين –فقد كان اغلب المستثمرين يؤكد في تلك الأسابيع الأولى أن هذه الأزمة هي عرضية كباقي الصعوبات التي يعرفها النظام المالي العالمي كل سبع أو ثماني سنوات
ولم يكن يتصور اغلب الملاحظين وحتى الفاعلين الاقتصاديين أن الوضع وصل إلى ذلك المستوى من الخطورة وان النظام العالمي على بعد خطوة من الانفجار ف Dick Fuld رئيس البنك الكبير Lehman Brothres إلى أخر لحظة قبل إفلاس البنك أكد أنه بإمكانه إنقاذ البنك وان الوضعية ليست بالخطورة التي تشير إليها التقارير الصحفية أو المحللون الاقتصاديون.وكنت طالعت منذ مدة مذكرات Ben Berna الرئيس السابق للبنك الفدرالي الأمريكي والتي صدرت منذ أشهر تحت عنوان «Mémoires de crise» أو «مذكرات أزمة» – وقد أشار Bernank انه لم يتصور في فترة رئاسته للبنك وقبل أيام من اندلاع الأزمة المالية أن الوضع المالي العالمي وصل إلى ذلك المستوى من السوء والتعفن – كما انه لم يكن يتصور أن السندات المالية العقارية وصلت إلى ذلك المستوى من التعقيد وأن حجم المخاطرة وصل إلى ذلك الحد ما جعل النظام العالمي أصبح كالسفينة التائهة تتلاطمها الأمواج وخارج السيطرة .
إذن واصلت السلطات المالية إدارة الأزمة ككل الأزمات السابقة الأخرى وبالأدوات التقليدية دون التنبه أو الاقتناع بخطورة الوضع المالي .ولن يستفيق الجميع وينتبهون إلى خطورة الوضع إلا يوم 15 سبتمبر 2008 عند الإعلان عن إفلاس بنك Lehman Brothers احد اكبر البنوك الاستثمارية في العالم واحد أيقونات سوق وال ستريت – وقد كان هذا لإعلان بمثابة الصدمة التي أصابت الأسواق المالية العالمية وقد اقترنت بإعلان عديد البنوك العالمية الأخرى والمؤسسات المالية أنها ليست بأحسن حال من بنك الليمان وأنها كذلك على شفة الإفلاس.
إذن سيمر الاقتصاد العالمي بأحد أهم الأسابيع العصيبة في تاريخها وستبدأ الحكومات والمؤسسات الدولية معركة قاسية من اجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البنوك والمؤسسات المالية خاصة إنقاذ النظام العالمي من السقوط .أتذكر هذه الأيام العصيبة ولم تغب عن مخيلتي فقد عشتها في إحدى المنظمات الدولية وهي منظمة التجارة الدولية والتي لعبت دورا مهما في إنقاذ النظام الدولي وخاصة في إعادة إحياء التجارة الدولية بعد سقوطها في الأشهر الأخيرة لسنة 2008.لقد كانت أياما عصيبة اتسمت بالخوف والتوجس من أن يسقط النظام العالمي وأصبح كابوس الأزمة المالية الكبرى لسنة 1929 وإفلاس البنوك وانتحار رجال الأعمال والمدخرين وملايين العاطلين عن العمل يراود الأذهان.
وقد التقى هذا التخوف مع إحساس كبير بالغضب على الأسواق المالية والبنوك والمؤسسات المالية وخاصة وسطاء البورصات والمتدخلين في الأسواق على حجم المخاطرة التي أخذوها من اجل تحقيق أرباح هائلة وجمّة غير مهتمين بوضع الاقتصاد ووضع الملايين من الناس العاديين الذين فقدوا شغلهم وآمالهم وراء هذه المغامرة المالية – وقد نادى العديد خاصة المسؤولين السياسيين بإنزال اشد العقوبات على الذين يتحملون المسؤولية في هذه المخاطرة وهذا الانخرام في الاقتصاد العالمي .
إذن كانت الأزمة العالمية مرحلة مهمة وحرجة في تاريخ الاقتصاد الدولي – وقد تطلبت سياسات وقرارات جذرية من اجل الخروج منها وإعادة الثقة في الاقتصاد الدولي وإرجاع الحيوية للنمو والديناميكية الاقتصادية بصفة عامة – وقد ساهمت هذه القرارات في نحت معالم جديدة لعالم اقتصادي جديد سيأخذ مكانه بصفة تدريجية ويكون الأساس الذي سيمكن الاقتصاد العالمي من الابتعاد عن الهاوية والنجاة من هذه الأزمة.وستساهم هذه القرارات والسياسات في الخروج من العالم النيوليبرالي والذي ساهمت نجاحات القوى السياسية اليمينية في بنائه على انقاض أزمة الاشتراكية الديمقراطية في العالم على غرار السيدة الحديدية مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالدريغان في أمريكا منذ بداية ثمانينات القرن الماضي – وقد أعطى هذا النظام الجديد دورا رئيسيا للسوق ونفى نهائيا دور الدولة التي اعتبرها إرثا غابرا انتهى أمره وانتفى- وستكون القرارات والسياسات التي سيتم إتباعها في خضم الأزمة نقطة انطلاق لبناء نظام اقتصادي ومالي جديد وبداية الخروج من النظام الليبرالي ومن هيمنة السوق الموروثين من الثورات النيوليبرالية لبداية الثمانينات – وسيتميز النظام الجديد بعودة دور الدولة لا فقط في دورها التعديلي بل كذلك في دور فاعل اقتصادي هام من خلال سياسات الدفع الاقتصادي أو Relance.
ويمكن لنا أن نبرز أهم ملامح النظام الاقتصادي الجديد في أربعة ملامح أساسية – المسالة الأولى تهم نهاية دور السوق والحرية المفرط فيها على الأسواق المالية فقد عادت القوانين وترسانة القرارات للحد من المغامرة والمخاطرة في الأسواق المالية وتحويل وجهة النظام المالي لتمويل الاقتصاد بدرجة أساسية وليس للمضاربة وتكديس الأرباح والثروات المالية على حساب الاقتصاد الحقيقي.
المسالة الثانية والتي شكلت قطيعة كبرى مع عالم ما قبل الأزمة وهي عودة السياسات الاقتصادية النشيطة والتي رفضها اغلب عتاة النيوليبراليين منذ بداية الثمانينات والذين طلبوا وعملوا على ترك العنان للسوق والمؤسسات الاقتصادية الخاصة بعيدا عن دور الدولة اثر الأزمة عادت السياسات الاقتصادية النشيطة في الميدان المالي من خلال ضبط سياسات مالية توسيعية وكذلك في ميدان ميزانية الدولة من خلال ضبط سياسة دفع من اجل النهوض بالاستثمار والنمو.
الجانب الثالث الذي عرف تطورا هاما يخص النظرية الاقتصادية فقد عرفت بداية الثمانينات ثورة فكرية في ميدان التحليل الاقتصادي مع تراجع الفكر الكينزي الذي يؤكد على دور الدولة في الاقتصاد والرجوع إلى النظريات النيوليبرالية لفريدمان ومدرسة شيكاغو والتي ساهمت مساهمة كبيرة في برامج
التعديل الهيكلي – إلا انه مع الأزمة الاقتصادية فسيعود الفكر الكينزي إلى صدارة الأحداث لتصبح نظرياته التدخلية أهم ملهم للسياسات الاقتصادية.
المسألة الرابعة والمهمة التي شهدت تحولا كبيرا بعد الأزمة تخص العولمة والدور الكبير الذي ستلعبه البلدان الجديدة الصاعدة كالصين والهند والبرازيل وإفريقيا الجنوبية وعديد البلدان الأخرى في حوكمة العالم وادارته.وستبرز منذ 2008 مجموعة العشرين والتي ستلعب دورا مهما في إدارة العالم بالرغم من بقاء مجموعة الثمانية – وسيكون بروز مجموعة العشرين إيذانا بنهاية العالم الموروث من الحرب العالمية الثانية والمرتكز على القوى الاقتصادية الكلاسيكية وبروز عالم جديد تشترك البلدان الصاعدة في إدارته.
هذه إذن بعض النتائج التي ساهمت الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 في بروزها – وقد ساهمت هذه الأزمة كما اشرنا في نحت معالم عالم جديد والذي بدأ من الانتصاب بطريقة تدريجية وبالرغم من بعض الانتكاسات التي يعرفها عالمنا مع ظهور وتنامي القوى الشعبوية فان الأزمة الاقتصادية فتحت الطريق لعالم جديد يضع حدّا للمخاطرة المالية ويضع الاقتصاد في خدمة الإنسان.كما يؤكد هذا العالم على أهمية التوازن والتعاون في إدارة الشأن الاقتصادي والدولي.