جارية على حال لم تعهده الجامعة التونسيّة، حتّى أيام الشدّة وغلق الجامعة لأسباب سياسيّة. واللافت أنّ الطلبة لم ينقطعوا عن الدراسة، ولا أحدثوا شغبا، واللافت أيضا أنّ السنة الجامعيّة قد انتظمت بصفة طبيعيّة انتظاما يخوّل أن تختم السنة في الآجال، ويحصل الطلبة على نتائجهم في الأوقات المعلومة حسب الروزنامة المحدّدة في اجتماعات المجالس العلميّة، ومجالس الجامعات.
ولكن لم يحدث شيء من هذا، وتعثّرت خاتمة السنة، وذاق الكثير من الطلبة الأمرّين، وعاش الأساتذة حالة من الفوضى، وشهدت الإدارة ارتجالا لم يسبق له مثيل، ومازالت أحوال الارتجال على أشدّها، والنتائج مختلّة، والمناظرات مضطربة، والإدارة حائرة، والقائد الأوّل المكلّف بالوزارة مرتهنا الجميع بمزاجيّة لا مثيل لها، لاسيما وقد ارتقى لكفاءته العاليّة إلى مرتبة ذي الوزارتين، وهو لقب عزيز في تاريخ التربية والتعليم.
أزمة الإدارة المركزيّة وسلطة القرار
عرفت الوزارة منذ حدث الثورة وزراء تداولوا على الإشراف عليها، وهم المرحوم أحمد إبراهيم، والسيد رفعت الشعبوني، والمرحوم المنصف بن سالم، والسيد توفيق الجلاصي، والسيد شهاب بودن، والوزير الحالي السيد سليم خلبوس. ويذكر للوزير الأوّل منهم أنّه فتح في إدارة الجامعة أفقين جديدين يمثّلان جزءا من ديمقراطيّة التعليم العالي، وهما إلغاء الأمن الجامعي، من ناحيّة، وإخضاع كلّ الهياكل إلى إجراء الانتخاب بما فيها هيكل رئاسة الجامعة. ويحسب لكلّ الوزراء أنّهم حرصوا على الطريقة التشاركيّة في إدارة التعليم العالي والشأن الأكاديمي، واستندت الطريقة في المبدإ إلى تشريك رؤساء الجامعات واعتبار مجلس رؤساء الجامعات وندوة رؤساء الجامعات هيئتين ذات سلطة فعليّة ومرجعيّة في القرار لا تهمل. ويضاف إلى هذين الهيئتين المهمّتين هيكل ثالث لا غنى عنه لأنّه يمثّل القاعدة الأستاذيّة ومطّلع دقيق الاطلاع على الشأن الجامعي والأكاديمي بكلّ دواخله، وذاك الهيكل الثالث هو الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي التابعة للاتحاد العام التونسيّ للشغل. وقد شهدت إدارة التعليم العالي خلال السنوات الماضية حدّا أدنى من الانسجام لإيمان الجميع بضرورة التداول في ما يعني القطاع، وإذا حدث اختلاف حادّ التجأت جميع الأطراف إلى حكمة التشاور وعدم الانفراد بالرأي ومراعاة مبدإ الزمالة ومصلحة التكوين المعرفي الذي اشتهرت به الجامعة التونسيّة، وإن شكّك فيه البعض.
إنّ الجديد في إدارة السيد سليم خلبوس تعبيره عن تسيير الوزارة بما يراه صالحا. وقد يكون صادقا في ما يظنّ. وحسب السيد الوزير أنّ مبدأ التسيير يبدأ باحترام قراراته، لأنّه الوزير. ونسي أنّ الاحترام لا يتأتّى إلاّ من تقدير رأي الكفاءات، وتطبيق النصوص المنظّمة لقطاع التعليم العالي بكلّ ما عرفه تاريخه الطويل وخبرة من مارسوه على أرض الواقع، كما يتأتّى الاحترام من تقدير الذكاء الوطنيّ الذي يمثّله الأساتذة والباحثون وسائر المشرفين على هذا المجال الدقيق. وفيما نعلم يسمّى السيد وزير التعليم العالي عن وجاهة «وزير الذكاء الوطني»، وتقتضي هذه النظرة إلى السيد الوزير أن تكون قراراته من الهياكل الأستاذيّة التي تحيط به، وتوفّر له الرأي الحصيف، وتحميه من كلّ ارتجال لا يليق بوزارة المعرفة والحكمة.
ولكنّ الواقع أيضا على غير ما وصفنا، إذ من المؤسف أن يتحوّل التداول في الشأن الجامعي مع الهياكل ذات الصلة والاهتمام بعيدا عن تحقيق الجدوى، ويضحي الاختلاف بين نظرة السيد الوزير وتقديره للأشياء ونظرة السادة رؤساء الجامعات وآرائهم في الموضوع اختلافا شديدا نرجو أن لا يتحوّل إلى أزمة حادّة تعطّل سير الهياكل الجامعيّة بما فيها الوزارة نفسها. وإنّه لمن المؤسف والمحزن أن يقرأ الرأي العام البيانات المختلفة التي نشرتها الجامعة العامّة أو 11 من جملة 13 رئيس جامعة، ليكتشف حدّة التباين بين رأي السيد الوزير ورأي الهياكل الجامعيّة، من نقابيّة وعلميّة. والنتيجة الصارخة أنّ السنة الجامعيّة قد شهدت اضطرابات شديدة في نهايتها، وهي إلى اليوم سنة مازالت مفتوحة الباب على المجهول، وليس للوزير أيّ رأي ولا أيّ قرار في كيفيّة ختمها. إنّ الانفراد بالرأي وعدم الالتزام بالطريقة التشاركيّة في التسيير، وعدم الالتفات إلى هيكل رؤساء الجامعات بل وإهمال الجامعة العامّة، إنّ كلّ ذلك قد كان له الأثار الوخيمة على انتخابات الهياكل من إدارة الأقسام، وعمادة الكليّات، وإدارة المعاهد والمدارس، ورئاسة الجامعات، بل تجاوز الأمر ذلك إلى اختلاق أزمة مع الأساتذة المبرّزين بمنعهم حقوقهم، وإدخال الامتحانات آخر السنة في أفق مسدود، لم يكن ضحيّته سوى الطلبة الذين ذاقوا الأمرّين، ومازالوا. يسأل الطلبة اليوم عن حفل اختتام السنة، ولا جواب. ويسأل النجباء منهم عن يوم العلم، ولا جواب. ويسأل الأولياء اليوم عن نتائج أبنائهم، ولا جواب. ويسأل الأساتذة اليوم عن انتخاب هياكلهم، ولا جواب. والثابت أنّ تاريخ الوزارة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا، أيّا كانت أسماؤها، لم يشهد مثل هذا الإبداع، إبداع الغموض، وحدّة التعامل مع الذكاء التونسيّ، واعتبار الذات سلطة القرار. لهذا يستحقّ السيد سليم خلبوس وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا ووزير التربية بالنيابة، وسام الاستحقاق التربويّ بعنوان 2017.
أزمة الانتخابات
يعلم السيد الوزير منذ تعيينه أنّ السنة 2017 هي سنة تجديد الهياكل كلّها، وكان يجب الاستعداد لذلك في الآجال التي يعرفها أهل الدراية من موظّفي وزارة التعليم العالي، وما أكثرهم، بل وما أكفأهم. وقد حذّر السادة رؤساء الجامعات من تأجيل النظر في أمر الانتخابات، وأنّ خللا ما سيطرأ على سير السنة الجامعيّة لو تأجّلت الانتخابات. ولكنّ السيد الوزير كان مفتونا بنصّ الأمر الذي أعدّه وذهب فيه إلى تجديد فلسفة الانتخابات والإجراءات التي درجت عليها الجامعة التونسيّة. وكأنّ كلّ ما سبق لم يرق إلى طموح السيد الوزير الشابّ والمؤمن بكفاءته. والحاصل أنّ السادة رؤساء الجامعات، باستثناء اثنين منهم لا يحتاج استثناؤهم إلى تعليق، لم يوافقوا السيد الوزير على ما ارتآه إصلاحا. ولم توافق الجامعة العامّة على الأمر المقترح ولا على صيغة الانتخابات، ولم تذهب ندوة رؤساء الجامعات مذهب السيد الوزير. وقال الجميع للسيد الوزير المتشبّث برأيه: لا يكون إصلاح الانتخابات إلاّ ضمن إصلاح شامل للمنظومة الجامعيّة، ولا بدّ في هذا الشأن من التريّث ومشاورة أهل القطاع، وحذّروه من الارتجال.
ومع ذلك أراد السيد الوزير أن يحمل السيد رئيس الحكومة على توقيع الأمر رغما عن موقف الهياكل المناهضة له. ولكنّ السيد يوسف الشاهد لم يفعل إلى حدّ هذا التاريخ، تحسّبا لاشتداد أزمة لا مخرج منها، وكم كان التعليم العالي في مأمن منها وبعيدا عن الوقوع فيها، لو كان السيد وزير التعليم العالي قادرا على الإنصات ومتواضعا تواضع العلماء والوزراء ذوي الكفاءات العالية، والمؤمنين حقّا بالطريقة التشاركيّة في إدارة الشأن العام عموما والشأن الأكاديمي على وجه الخصوص. والحاصل أن أجّلت الانتخابات إلى موعد غير معلوم. والحاصل أيضا أنّ السيد الوزير يعلن قرارات وينفيها السادة رؤساء الجامعات لعدم الاتفاق عليها. والحاصل أخيرا أنّ العمداء والمديرين ورؤساء الجامعات ستنتهي صلاحية نيابتهم في 31 جويلية 2017، ولا يحقّ لأحد منهم أن يوقّع وثيقة أو يأذن بأمر قبل أن يمدّد له في مدّته النيابيّة غير المعلومة مقدّما. هل تُرَى الجامعة في حاجة إلى هذا الاضطراب والتمديد في غير محلّه؟ وهل كنّا في حاجة إلى سوء الإعداد لسنة جامعيّة جديدة يتولّى بدايتها عمداء ومديرون ورؤساء جامعات لم يعدّوا لها، ولا باشروا مشاكلها قبل الأوان بحثا عن إيجاد الحلول المناسبة قبل حدوثها. وليتصوّر الناس اليوم الحالة التي ستشهدها السنة الجامعيّة في بدايتها حين تتكثّف مشاكل تسجيل الطلبة، وإعداد جداول الأوقات، وتعيين الأساتذة الجدد في مؤسّساتهم، وتأمين سير الدروس في الأسابيع أو الأشهر الأولى مع ما يقتضي أمر الانتخابات المتتالية من استعداد وتنافس، ومتابعة دقيقة لتكون انتخابات نزيهة وممثّلة لإرادة القاعدة الأستاذيّة وطموحاتها. نعم سيدي الوزير إنّ إرادتك الفرديّة وإيمانك بعدم الحاجة إلى غيرك، وحرصك على فرض قرارك إيهاما بأنّه قرار الحكومة والدولة إنّما كلّ ذلك أدّى إلى أزمة الانتخابات وتأجيلها. وسُئِلْتَ عن ذلك في المساءلة الشفويّة بمجلس النواب فقلت جوابا ردّه عليك رؤساء الجامعات. وهل عندك أجل تضربه للناس حتى يعلموا أين تسير الجامعة وبأيّ قيد تتقيّد. للأسف، لا نرى ذلك. لهذا أيضا تستحقّ عن جدارة وسام الاستحقاق التربويّ لسنة 2017، ولا ينافسك فيه أحد.
أزمة حقوق المبرّزين والمشرفين على مذكّرات التخرّج
واختلق السيد وزير التعليم العالي أزمة أخرى هي منع الأساتذة المبرّزين حقوقهم التي سبق أن وافق عليها، ومنحهم بموجب ما اتفق عليه مِنَحَهُمْ التي يتمتّع بها اليوم زملاؤهم من أبناء صنفهم بالتعليم الثانوي. وبعد مضيّ أشهر قليلة تمتّع خلالها الأساتذة المبرّزون بتلك المنح قرّر السيد وزير التعليم العالي إيقافها. وأدخل قراره مرّة أخرى اختلالا على سير الامتحانات إذ التجأ الأساتذة المعنيّون إلى حجب الأعداد والتجأ السيد الوزير إلى التهديد مذكّرا بوزراء سابقين لم يكن لهم شأن ولم يعد لهم ذكر اليوم، ولم يلتفت السيد وزير التعليم العالي إلى مآل السنة الجامعيّة، ولم يهتمّ بحال المؤسّسات التي لم تعد قادرة ولا هي بالقادرة اليوم على إعلان عدد كبير من نتائجها. ولم يأبه لحالة الطلبة الفقراء والمعوزين والمحتاجين. وصادف أن كانت الامتحانات في جزء منها في شهر رمضان، ونستسمح السيد الوزير في إعلامه بأنّنا رأينا بأمّ العين طالبات يتنقّلن بأدباشهنّ من بيت إلى آخر ولا ندري إن كنّ يجدن مأوى وما يقتتن من طعام بسيط بعد يوم طويل وشديد من الصيام، لأنّهنّ لم يعدن قادرات على السكن، وفضّل أصحاب المنازل إيواء الأجانب والضيوف الباحثين عن اصطياف ممتع. فَعَلَ ذلك أصحاب المنازل رغبة في كراء باهظ. فهل فكّر السيد الوزير، وهو ابن الأسر المرفّهة، في حالة هؤلاء الطلبة والطالبات خاصّة؟ هل فكّر السيد وزير التعليم العالي في أهالي هؤلاء الطلبة المعوزين؟ وهل خامر السيد الوزير إحساس الإنسانيّة، وهو على طاولة ممتدّة يتشهّى الطالب والطالبة بعض ما عليها ولا ينال منها شيئا. نعم سيدي الوزير، طلبتنا معوزون، وحالهم رثّة، ولكنّهم طلبة أهل عفّة، وأهل يد لا تمتدّ إلى الغير ولا تطلب رأفة. الأساتذة المبرّزون كغيرهم من الطلبة المعوزين يريدون حقوقهم بعرق جبينهم، وواجبك أن تمنح العاملين أجرهم بحقّهم، ولا أن تنكر جهدهم وتغمطهم مُقَابِلَه. لا يطلبون منّة من أحد.
وعانى المشرفون على مذكّرات التخرّج من منع حقوقهم، وأنكر السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي مقابل جهدهم وعرق جبينهم، ولا يسكت أحد عن حقّه، ولا يضيع حقّ وراءه طالب. فكان من منع السيد الوزير أن توقّفت مناقشات المذكّرات، وحجبت النتائج، ولو قدّر السيد الوزير الفرص التي فوّتّها على الطلبة لعدم مشاركتهم في المناظرات الوطنيّة وغيرها، لاعترف، إن أراد الاعتراف، بالاضطراب الذي طرأ على سير السنة الجامعيّة.
ويسأل الجميع اليوم، أساتذة وأولياء، ومعنيين بالشأن الجامعي، متى تنزيل الأعداد المحجوبة؟ ومتى دورة التدارك التي كان يجب تنظيمها قبل 30 جوان من السنة الجارية؟ والجواب: لا ندري؟ أبهذه الطريقة وبمبدإ المجهول تدار سنة جامعيّة ويسيّر الذكاء الوطنيّ يا سيادة الوزير؟ إنّ السكوت المطبق، والتأجيل إلى غير موعد، والهروب من المشاكل بإلقائها على الغير تدلّ كلّها على عطالة تامّة وعدم كفاءة في إدارة الشأن العام، وقطاع التعليم العالي الذي تتولّى تدبيره.
نعم سيّدي الوزير، لهذا نراك تستحقّ دون منافس وسام الاستحقاق التربويّ للسنة الجارية.
أزمة إصلاح التعليم العالي
صرّح السيد الوزير في أكثر من مناسبة عزمه إصلاح التعليم العالي ومتعلّقاته، والمشروع في حدّ ذاته محمود، وواجب لا بدّ من إنجازه بمقتضى التغيّرات البنيويّة التي طرأت على المعارف، وطرق التعليم، وأنواع المشاريع البحثيّة، وفوق هذا كلّه نوع التغيّرات التي باتت جزءا من المجتمع التونسيّ وقِيَمَهَ ورُؤَاهُ. ولا يعني الإصلاحُ التعليمَ العالي بقدر ما يشمل التربية والتعليم. ولكنّ هذا المشروع الذي لخّص بعضهم أهميّته في عنوان صحفيّ مثير قائلا: «التربية أم المعارك»، لا يمكن إجراؤه، ولا تفصيله، ولا تحديد مقدّماته دون استشارة أهل الرأي استشارة واسعة، ولا يمكن إغفال آراء الهياكل من الدنيا فما فوقها إلى سلطة الإشراف، وليس للسيد الوزير الحكمة المطلقة بحيث يقرّر للناس ما لا يرتضون، لأنّ مآل التربيّة والتعليم العالي هو مشروع مجتمعي، ورؤية فكريّة بل حضاريّة، وهذا الشأن أشمل من القرار الفرديّ، وإن كان صاحبه وزيرا. وأقول في غير تردّد وأنا أحد عمداء كليات الآداب والعلوم الإنسانيّة بالبلاد، «إنّي لم أستشر البتّة»، ولم تستشر هياكل الكليّة التي أتولّى عمادتها، بل صدمت أن أضحى مشروع الإصلاح على لسان السيد الوزير مشروعا سياسيا، تمثيليّا، تجنّبا لنقد الأطراف التي تدّعي سلطة ومرجعيّة. وكان من الواجب أن يكون إصلاحا للوضع المعرفيّ، وقبل ذلك مشروعا فكرياّ ينمّي انتماء التونسيين بطريقة تفكيرهم إلى الألفيّة الثالثة التي دخلناها من باب خلفيّ هو استقدام الماضي ببريق الحداثة الزائفة لأننّا لم نصنعها، بل لم نفهمها أصلا. وظنّ السيّد الوزير أنّ الإصلاح النوعي الذي سيحسب له، ويذكر ضمن مآثره إصلاح علمي وتكنولوجي، ونسي أنّ الأصل هو ما تتقوّم به إنسانيّة الإنسان. نعم، أعلن السيد الوزير صاحب الرؤية المتعجّلة عن تغيير أربعة مديرين عامّين، وقلّ أنْ فعل ذلك سابقوه بأن غيّروا المشرفين على مثل هذه الخطط المهمّة دفعة واحدة، ولا شكّ في أنّ السيد رئيس الحكومة قد سانده في ذلك، ووهم كما وهم السيد الوزير بأنّ الإصلاح العلمي والتكنولوجي هو «أم المعارك». ولينظر أهل الدراية إلى ملامح المديرين العامّين الأربعة ليقف على أن لا أحد منهم ينتمي إلى الآداب والعلوم الإنسانيّة. وليس الأمر مفاجئا إذ ظهر في كلّ مرّة أنّ الوزير لا يمنح هذا الاختصاص أيّ تقدير، ولا هو بالواعي بأهميّة علوم الإنسان والمجتمع، ولا هو واع بالحاجة إلى اللغات أصلا. ودارت الشائعات المقصودة باعتزام السيد الوزير تغيير الخارطة الجامعيّة، وغلق الكليّات حيث الاختصاصات غير النافعة، ومنها اختصاصات الآداب والعلوم الإنسانيّة، وتحدّث أهل الألسنة الطاعنة والساخرة عن تحويل الطلبة إلى غير كلياتهم، وكأنّ غلق الكليات أو تحويلها إلى فضاءات اختصاصات أخرى سيحلّ معضلة الجدوى؛ والظاهر أيضا أنّ السيد الوزير هو من أنصار حلّ المشكل بإزالته أصلا، ولم يسبق في تاريخ البشريّة حلّ بالإزالة. وما زلنا نؤمن أنّ السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي لم يقصد هذا، وهو أعقل من أن يقرّر هذا الذي تتداوله الألسنة على وجه الاغتياب والطعن.
الآداب والعلوم الإنسانيّة اختصاص لازم كحجر الزاوية من البناء
من المؤسف أن يلاحظ المعلّمون أياّ كانت خطّتهم ومجال تدريسهم ضعف الملكة اللغويّة أيّا كان صنفها. ويروّج أنّ التونسيّ لم يعد يتقن أيّ لغة. وأشكّ في هذا. ولكنّي أحزن شديد الحزن عندما أقرأ على صفحات الجامعة التي تهمّني فأرى تعبيرا يندى له الجبين من كثرة الأخطاء، وسوء التركيب والتفكير. أليس من المثير للأسف أن تنحطّ ملكة رئيس جامعة إلى حدّ العطالة اللغويّة التي تمنعه من تقديم جامعته تقديما بسيطا وفي عبارة سليمة. وافضيحتاه أمام الأمم، وهل سيحصل يوما ترتيب هذه الجامعة أصلا؟
إنّ تعليم الآداب واللغات والعلوم الإنسانيّة يمنع على الأقلّ هذا السخف الذي نشهده. واللغة، سيدي الوزير، تفكير، وتدريب على المقارنة، واستقراء للآفاق الحضاريّة التي تنتجها الأمم على مرّ السنين؛ اللغة، سيدي الوزير، إيغال في استقصاء الذات عبر ذوات الإنسانيّة كلّها، ولا مناص من ذلك، وإلاّ ادّعى الفرد ما لا يكون إلاّ بغيره. أمّا الآداب أيا كان موطنها وعصرها، فهي تعبير الإنسانيّة الفنّي، وهو ما تنمو به النفس البشريّة، وتعظم قيمها الأخلاقيّة، وترتبط به رؤاها الحاضرة بماضيها. الآداب مقالات الأمم عن نفسها في خضمّ ما تفاجئها به الحياة من الأزمات والرهانات؛ والشعرُ من بينها، سيدي الوزير، ملحمة النفس من أجل الخلود، والقصّة، سيّدي الوزير، سرد الذات الباحثة عن معنى ذاتها في الوجود؛ والتاريخ، سيّدي الوزير، استقراء حقيقة ما حدث، بحثا عن حقيقة الآتي؛ والجغرافيا، سيّدي الوزير، هي دراسة «عبقريّة المكان» كما تصنعها عبقريّة الساكن المقيم، أو العابر إلى حين؛ وعلم الإنسان أو الأنثروبولوجيا، سيّدي الوزير، هي دراسة فكر الإنسان بما هو جوهره الثقافي المتغيّر على الدوام؛ وعلم الاجتماع، سيّدي الوزير، هو دراسة الانتظام الجماعي في مناكحه ومواريثه، في حربه وسلمه، في تقاليده، وقيمه المقترضة والأصيلة، وفي كلّ ما يحقّق نشأته واستمراره، وسيادته؛ والدولة بكلّ مكوّناتها ومقوّماتها جزء من ذلك. ولو زِدْتُ فحدّثتُ عن الفنّ والطقوس، والموسيقى والفلسفة لأطنبت في التمثيل، لأنّها كلّها إنّما هي دراسة تعقّل الإنسان للأشياء والظواهر، وصناعة الرؤى والقيم وتفهّم الوجود أصلا.
فهل يسع السيد الوزير إهمال هذه التربية على التفكير وإغفال علوم الإنسان والآداب بالنحو الذي نشهد اليوم؟ إنّ أيّ مشروع يُعْتَزَمُ إنجازه سيكون غير ذي جدوى إن خلا من علوم الإنسان والآداب. وليفكّر الجميع جيّدا في ما يكون به الطبيب والمهندس والعالم الراقي رياضيا كان أو فيزيائيا أو إعلاميّا، أَلاَ تُبْنَى كفاءته المهنيّة وعبقريّته أصلا على سند الإنسانيّة فيه، ومتانته الثقافيّة وقدرته على القول. وما تراه يقول إن كان عييّا فاقدا للغة والثقافة؟ إنّ المحتمين المكتفين اليوم بالدين والمتباهين بما ظنّوه ماضيا مُنْجِيًا، إنّما حجبوا الدنيا بوهم الظنّ وأفرغوا الإنسانيّة من جوهرها، وعبارته حريّة الفعل، والقدرة على الخلق على غير مثال، وتقدير الذات في أفق الغيريّة اللازمة. ولا نظنّ إصلاحا ممكنا حتّى يَسْتَوْفِيَ شروط التربية الإنسانيّة والتدريب على الغيريّة.
لقد أعلن السيد الوزير موعدا للنظر في مشروع الإصلاح الراغب في عرضه، وكان من المفترض أن يكون في أواخر شهر جوان الماضي، ثمّ ألغي إلى حين إجراء الانتخابات. وللأسف، إذ ما علاقة الانتخابات بمشروع الإصلاح؟ نعم سيّدي الوزير أرى هذا التأجيل مثالا آخر من أمثلة التسرّع والارتجال، وبه تستحقّ وسام الاستحقاق التربويّ.
أزمة التواصل في الشأن التربويّ
قرّر السيد رئيس الحكومة أن يمنح السيد وزير التعليم ثقته بتكليفه بمهام وزير التربيّة بعد عزل السيد ناجي جلّول في ظروف لا تليق بالدولة التونسيّة وتقاليدها. وهنيئا للسيد وزير التربية بالنيابة بهذه الثقة. والمعروف أنّ المكلّف بالنيابة هو وزير ذو مهامّ شكليّة لا مهامّ تصوّريّة ينتظر منها وضع البرامج الإصلاحيّة العميقة. ولكنّ السيد وزير التعليم العالي والتربية بالنيابة يجرؤ على التصريح إلى إحدى القنوات بأنّه سيلغي اختصاصي الآداب والعلوم الاقتصاديّة. وقد يكون الرجل صادقا في إحساسه، وظنّ أنّ هذين الاختصاصين لا جدوى منهما، واقترح تعويضهما باختصاص آخر يتعلّق بعلوم الإنسان والحياة، وعلوم الفضاء. وأمام ردود الأساتذة المعنيين، وتلاميذ الباكالوريا، وقد كانوا بصدد إجراء امتحاناتهم، تراجع السيد الوزير وأنكر أن يكون صرّح بذلك. لا بأس مادام إصلاح الخطإ ممكنا، ولكن أَمِنَ الحكمة أن يعلم التلاميذ بالتغييرات الهامّة مثل حذف صنفي الآداب والعلوم الاقتصاديّة من أصناف الباكالوريا، أياّم إجراء الامتحانات، وما ينتاب التلاميذ من تشنّج طبيعي وحلم بالنجاح؟ أمن الحكمة أن يقرّر السيد الوزير بمفرده حذف صنف من أصناف الباكالوريا، وهو الوزير بالنيابة، كلّف ليستمرّ عمل المرفق العام؟
إنّ التفكير الفرديّ ودون رويّة، واعتبار الذات ذات سلطة تقريريّة لا تحتاج إلى غيرها، لا يمكن أن يكونا إلاّ آفة تصيب التربية، وستصيبها إن استمرّ الأمر على هذا النحو. لذا نري أنّ السيد وزير التعليم العالي والتربية بالنيابة يستحقّ دون شكّ وسام الاستحقاق التربويّ للسنة الجارية.
«دولة الهواة»؟
كتب زميلنا المؤرّخ الأستاذ فتحي ليسير كتابا مهمّا عن تونس المعاصرة، وسمّاه «دولة الهواة». وأخشى أن يكون الرجل محقّا تماما في ما قال وفصّل. وميلي أنّه محقّ في أكثر من مجال. وأنصح كلّ الوزراء أن يطالعوه بتؤدة وإمعان. بل ظنّي أنّه جامل في رسم العنوان، ولو كان لي أن أغيّره لاقترحت عنوانا استبدلتُ فيه الهواة بما هو أشدّ نقدا، لولا أن أثناني عن رأيي كفاءة بعض الوزراء المشهودة. وأسأل كلّ المعنيين بالشأن الجامعي، وأهل القرار، وأسأل السيد رئيس الحكومة وسيادة رئيس الجمهوريّة، أأنتم راضون عن هذه السنة الجامعيّة التي تفاقم أمر تسييرها إلى حدّ أنّنا أهملنا الطلبة، والامتحانات، وحقوق الزملاء المبرّزين، والمشرفين على المذكّرات؟ أأنتم راضون عن تدبير وزارة التعليم العالي وقد أصاب الأولياء ضيم التشتتّ، واضطراب المناظرات الوطنيّة وغيرها؟ إذا كانت حجّة الوزراء جميعا أنّهم يمثّلون سياسة الحكومة فأخشى ما أخشاه أن تكون الحكومة في غفلة عمّا يجري، أو أن تكون الثقة زائدة على حدّها فضاع المال والبنون.
لقد فرض الوضع السيّئ بالتعليم العالي ومواصلة الأساتذة المبرزين حجب الأعداد، واستمرار السنة الجامعيّة على غير سنّتها، فلا يوم علم، ولا تكريم للنجباء، ولا دورة تدارك، فرض ذلك أن تدخّل الاتحاد العام التونسي للشغل، وألزم السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي ووزير التربية بالنيابة التوقيع على اتفاقية منح الزملاء حقوقهم. كان ذلك يوم 14 جويلية 2017، وإذن حلّت المعضلة. ولكن ألم يكن من الحكمة أن تسير الأمور على غير هذا الوجه؟ كيف تلافي أخطاء التسيير التي عانى منها الطلبة، والأساتذة، والإدارة، واضطراب السنة الجامعيّة التي لم تختم إلى حدّ هذا التاريخ.
إحساسي مزيج من الحزن والاستغراب. عندما أقرأ عن سيرة السيد الباجي قائد السبسي وخبرته السياسيّة والذكاء السياسي الذي واجه به كلّ الفترات العصيبة أيّام بورقيبة وبعده؛ وعندما ينحني الباجي قائد السبسي أمام ضريح حنّبعل إعظاما لمآثره، إحساسي أنّ تونس تستحقّ أفضل ممّا تعيشه اليوم. والباجي قائد السبسي بملكته اللسانيّة وكفاءته العالية ومحبّته لتونس لا يسمح بإهمال الآداب والعلوم الإنسانيّة في منظومتنا التربويّة، ولا يلقي ببلاد ذات تاريخ حضاريّ عريق في أيدي من لا كفاءة لهم. من حقّي أن أطمح، وأنا على أبواب التقاعد، أن يكون الطالب التونسيّ أوثق ملكة، وأوسع علما، وأرسخ قدما، وأتقن للغات من جيلي، وإلاّ ضاعت المدرسة العموميّة التي بنتها الدولة الوطنيّة وراهنت بها على الحداثة. وليعلم سيادة وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتربية بالنيابة، أنّي ابن تلك المدرسة، وابن فلاح أيضا، قلّ أن عرفت الرفاهة لأنّي داومت على اقتطاع الصبر من جهد تعهّد الأرض، ولم أنقطع إلى سواها. فلتعذرني إن لم أدافع عن الجامعات الخاصّة، لأنّي لم أعرفها حياتي، ولا أقدر على مجابهتها. وكذا علّمت أبنائي، وجميع من علّمتُ هم بتلك المنزلة.