قبل اغتيال الشهيد خليفة السلطاني ، كانت الحرب على الفساد وحدودها ومدى جديتها هو ما يشغل الرأي العام ، إلى أن جاءت حادثة الحكم بالسجن على مجموعة من الشباب المفطر في بنزرت وشطحات عادل العلمي وما أثارته صولاته في المقاهي من نقاش وحوار حول حرية الضمير والمعتقد وسلطة القانون وهيبة الدولة...
ثم جاءت حادثة الاختطاف وصور الشاب السلطاني وهو مذبوح بطريقة وحشية وصور أمه وهي ملتاعة في ابنها الثاني، تلقف الإعلام الصور وأصبح الإرهاب، الذي خفّت وطأة الحديث عنه منذ مدة، موضوع الساعة وتداولت شبكات التواصل الاجتماعي وبعض الصحف هذه الصور، وكتب بعضهم « كلنا عائلة السلطاني» على صفحته الخاصة وعوضت صورة الأم المكلومة في ابنها الثاني آلاف الصور الشخصية على الفيس بوك وذلك من أجل إظهار بشاعة الإرهابيين واحتقارهم للحياة ووحشيتهم. ما يستحق ربما الوقوف عنده، بعد الكم الهائل للرؤوس المقطوعة التي يروجها الإرهابيون ودهس المواطنين وطعنهم، هو السؤال التالي: ماذا لو كانت إثارة اشمئزازنا وقرفنا وكرهنا لما يفعله هؤلاء هو ما يريدونه بالضبط؟ أي ماذا لو كناّ نطبق بالضبط إستراتيجية الإرهاب وهي الإستراتيجية التي رسمتها داعش إعلاميا منذ ولادتها سنة 2006؟
جاء في تقرير مركز كارنغي لدراسات الشرق الأوسط،وهو مركز أبحاث مقره بيروت، أن الحملات الدعائية، التي عادة ما ترتكز على العنف وزرع الخوف، «تلعب دورا مزدوجا: إنها وسيلة للتجنيد، لكنها غالبا ما تُستخدم للجهد العسكري وأحيانا للتعويض عن تراجعه.» أي أن المجموعات الجهادية تستهدف فئة معيّنة من الشباب ، أولئك الشباب المحبط من المجتمع والذي له رغبة جامحة في الانتقام من كل أولئك الذين همّشوه، من كل أولئك الذين لم يعيروا طموحاته أي اهتمام، الشباب الذي تستهويه المجازفة، والانتقام تماما كما يستهويه في بعض الأحيان الانتحار لفقدانه الأمل، لأنه ، كما يقول الكاتب الكبير ، دوستوفسكي، « أن تعيش دون أمل هو أن تتوقف عن الحياة.» هذا وقد أظهرت دراسة قام بها مركز بحوث الدراسات الراديكالية في بريطانيا أن 80 بالمائة ممن وقع تجنيدهم في أوروبا للقتال في سوريا والعراق جاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تظهر تفنن التنظيم في العنف والقتل .
ودون الدخول في تبريرات قد تبدو واهية، يمكن ان نقول ان الإحساس بالظلم والإحباط والإقصاء الاجتماعي والثقافي يولد تصرفات عدوانية تصل أحيانا الى الرغبة في القتل لا فقط، قتل من يتراءى لهذا الشباب إنهم أعداؤه، من صناع قرار ورموز سياسية أو إعلامية أو ثقافية ، بل ممن هم حوله ، حتى من مواطنين عاديين، ليس من اجل تحقيق هدف ما، بل بغاية إشاعة الفوضى في المجتمع.
يرى الباحث الفرنسي اوليفييه روا أن الشباب المنجذب لداعش والفكر الجهادي عموما ، ليس له قضية محددة ولا تهمه أوضاع المسلمين ولا قضية فلسطين ، انه شباب تائه له نزعة عدمية ، إنهم لا يختلفون كثيرا عن المهووسين الذين يدخلون المدارس في الولايات المتحدة ويقتلون الأطفال بدم بارد، ثم يموتون بعد ذلك، أي عكس التيارات اليسارية أو اليمينية المتطرفة التي عرفها التاريخ والتي لها هدف من العنف تريد تحقيقه، فان العنف بالنسبة لهؤلاء «ليس وسيلة لتحقيق غاية ، بل هو غاية بذاتها.»
بقي ان للدولة الإسلامية وذئابها المنفردة وخلاياها النائمة إستراتجيتها الإعلامية ، لان «الإعلام هو نصف المعركة» وهي ان تكون ، أكثر وقت ممكن متداولة في صفحات التواصل الاجتماعي والتلفزيون والإذاعات والصحف ، وبقدر ما تكون الصور صادمة يكون التأثير
في النفوس اكبر، يقول احد الخبراء ، «لقد تمكّن داعش من هضم عصارة الخبرات الإعلامية لكل التنظيمات الجهادية التي سبقته» والحقيقة انه لم يسبق لأي تنظيم إرهابي أن غزا الفضاء الإعلامي بقدر ما فعلته داعش والتنظيمات التي تدور في فلكها، ولم يسبق للعنف أن وصل الى ما وصلت اليه تلك المجموعات: رؤوس جنود سوريين معلقة كرؤوس الخرفان في دير الزور، طيّار أردني يحرق حيّا ، مشاهد لإعدامات وقتل جماعي بالمئات...والغاية هي واحدة : نشر الخوف في قلوب الناس وإرهابهم وجذب كل أولئك المفتونين بالعنف، يقول ابو محمد العدناني ، الذي كان المتحدث باسم التنظيم قبل ان يقتل الصيف الماضي، «لدينا جيوش في العراق والشام كالأسود الجياع ، شرابهم الدماء وانيسهم الأشلاء».
انها حرب نفسية تُشن على الأعداء ، صناع قرار ومواطنين على حد سواء،ومما زاد من صلف التنظيم ، ان إستراتجية الرعب قد أعطت أكلها في بداية حرب التنظيم في العراق سنة 2014، فقد انسحبت القوات النظامية من الموصل بسرعة ، قبل أن تبدأ المعركة ، ونزح العديد من العراقيين المدنيين خوفا من التنكيل و«القتل الجماعي في الساحات العامة» كما جاء على لسان أحد المواطنين.
وبعد هزائمه المتكررة على الميدان ، يحاول تنظيم داعش صنع الحدث ، من خلال أعمال عنف مبتكرة ، وذلك لتحقيق عديد الأهداف: رسائل طمأنة لخلاياه النائمة ، وأخرى الى المواطنين ، رسائل مفادها ان لا احد في مأمن من ضربة الإرهاب وان الدولة «العلمانية» غير قادرة على حماية مواطنيها والتشكيك في الأجهزة الأمنية والمخابراتية ومحاولة التأثير في الأحداث ، مثل العمليات الأخيرة التي وقعت قبيل الانتخابات البريطانية ، من اجل إعطاء دفع لليمين ، لا في بريطانيا فقط ، بل في كامل أوروبا والدول الغربية .
ولعل أهم سؤالين يمكن طرحهما اليوم هما : أية إستراتجية إعلامية يمكن إتباعها لمواجهة الدعاية الإرهابية ، خاصة بعدما تبيّن أن صدى عمليات القتل يعتبر أكثر حضورا في مختلف وسائل الإعلام مما تبثه وسائل إعلام هذه المجموعات، وهو ما يخدم أكثر مقاصد الإرهابيين؟ وثاني سؤال هو : بأي قيم إنسانية وثقافية اجتماعية ودينية يمكن أن نضمن تفوق الإنسانية في مختلف أصقاع الدنيا على هذا الخطر الداهم؟