منبر: بورقيبة بين ماضينا وحاضرنا

بقلم: مسعود الرمضاني
يرى أرسطو ، محقا، أن تقديس الحكام مرتبط بالشرق ، لان المعتقد الذي كان سائدا عند الفراعنة وبلاد فارس وغيرهما من الحضارات يرى أن الحاكم هو ابن الإله، وبعد ذلك تقدم الفكر قليلا فأصبح الملك يحكم باسم الله وهو ممثله في الأرض والعامل بأوامره .

وقد بقيت هالة تقديس الحكام الجدد عند ملوك الشرق الى زمن غير بعيد، حيث أن الحاكم ، مهما كان جوره وتعسفه ، فهو يحمل قدسية ما ، ويمكن تبرير أخطائه بتفرّد فكره وعبقرية حكمه وجمعه لكل مواهب إدارة السلطة ويذهب الأمر إلى حد تقزيم كل من حوله،الذين ، مهما كانت قدراتهم ومستواهم وذكائهم، فهم لا يمكن أن يكونوا أكثر من مجرّد أدوات لتنفيذ أوامره، تسلب منهم إرادة المبادرة وإبداء الرأي والعمل بحرية ...

وفي المقابل ، نقتل نحن ،أهل الشرق السعيد، الأب فينا (بالمفهوم الفرودي طبعا) لا لنعتق فراشة عقولنا من شرنقة الجمود والموت الحضاري البطئ ، لترتع في حدائق فضاءات الفكر الإنساني الرحبة وتساير التطور الحتمي، بل لننغلق أكثر ، نقزّم كل زعماء الحداثة والتنوير لننفض الغبار عن مفكري عصور الانحطاط من أمثال ابن تيمية والغزالي وابن عبد الوهاب... ذلك لان ذهننا يستهويه الكسل ويكره «عذابات « البحث ويخاف مغامرات المبادرة ويروم الإجابات السهلة والحلول الجاهزة.

« إننا لا نقتل آباءنا بقدر ما يقتلون أنفسهم فينا»(الكاتب المغربي، محمد شكري).

بورقيبة هو من غرس فينا فكرة الأب الذي يعرف كل شئ و يمتلك كل القدرات : خلّص الشعب من براثن الاستعمار، بنى الوطن صخرة، صخرة بمفرده، بقوّته وعبقريته،لوحده، لم يكن آباؤنا إلا «غبار أفراد» ، هو من جمعهم لينحت منهم شعبا ، أذكر ونحن أطفال اننا سمعنا ان وجوده كان مرتبطا بتنبؤ جاء قبل ولادته: «يطلع دنفير من المستير فيه الدول تحير» ، هكذا نستنجد بالأسطورة أحيانا لتبرير الواقع.

ونحن شباب ، كانت علاقتنا به ملتبسة،لم نكن ننكر أن الريفيين منا كانوا ، ربما، سيظلون رعاة مدى الحياة لولا التعليم الذي نشرته دولة الاستقلال ، لم ننكر فضائل تلك الدولة في نشر قيم الحداثة وتحرير المرأة والتعليم المستنير التي طبعت شخصيتنا ومواقفنا، لكن حسّنا السياسي البدائي نبهنا منذ أن قرر بورقيبة أن يكون الحاكم الأوحد لتونس و»المجاهد الأكبر» الذي سيرأس البلاد ما بقي حيّا، لان لا وجود لبديل عنه، أن ذلك سيكون كارثة على حكمه ، وعلى تونس، وكان ذلك أحد موضوعات حديثنا في الحلقات الطلابية.

أذكر وأنا طالب في الجامعة ، اثر انتفاضة 26 جانفي 1978، أنني قرأت رسالة الزعيم النقابي أحمد التليلي التي أرسلها إلى بورقيبة سنة 1966، وفاجأني دفاعه عن الديمقراطية و بعد نظره وخشيته من منزلقات الحكم الفردي ، وكانت إحدى الفقرات جد معبرة ، حيث أشار إلى أن» نظاما يفرض نفسه على شعب بالقوة ويرفض تشريكه في إدارة شؤونه، هو نظام محكوم حتما بالفشل «وان التقدم الاقتصادي والاجتماعي يكون معدوما «إذا لم يكن الشعب شريكا في قراراته».

وهكذا ، كما أكدت أخيرا الأستاذة نورة بورصالي في كتابها «بورقيبة والمسألة الديمقراطية» أن الزعيم فوّت على نفسه فرصة أن يكون منفتحا» وفوّت، كذلك، الفرصة على تونس كي تكون رائدة في الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط ، تماما مثل رياديتها في التعليم والتحديث وحرية المرأة...

وان كان لابد للتاريخ ان ينصف الرجل ومساهماته في التقدم بتونس وبناء مؤسسات الدولة، الا ان أولئك الذين يريدون إعادة الماضي يخطئون ، فالشعوب اليوم التي تتوق للحرية لا تبحث عن الزعيم العبقري ولا تتوق الى البطل الأوحد الذي يقود البلاد على سيرة النبوءة الخالدة لنقدم له ولاءنا على طبق من فضة، خاصة بعد ان فشلت كل القيادات الكاريزمية، بمختلف مشاربها،بما فيها تلك التي كانت تعد شعوبها بتحقيق العزة والمناعة والرقي في تحقيق أدنى متطلبات العيش والكرامة ولم تكن قادرة حتى على إخراج شعوبها من القبلية والتخلف والجهل الذي حكمها لقرون.

إن الشعوب اليوم في حاجة إلى مواطن له خصال تخول لشعبه أن يختاره لفترة محدودة ، مواطن يقود لكنه يعمل ضمن مؤسسات متماسكة، هو أول من يكون حريصا على احترامها، تنتهي مهمته بانتهاء فترة انتخابه ، ليعود الى حياته العادية ويسهم في مجالات أخرى،لان إحدى مزايا الديمقراطية ،ومع احترامها لتاريخ الشعوب و لكل البطولات الفردية دون انتقاء، فإنها لا تخلق أنصاف الإلهة وتلغي تماما فكرة الزعيم الأوحد ، الفارس الذي لا يشق له غبار، لتؤسس إلى الشعب الواعي الذي يدرك مصيره ويبني حاضره، وان يحتاج ذلك إلى أمثلة من الماضي للاستئناس ومنارات تاريخية للعبرة، إلا إنها لا تحتاج إلى ربان خارق ، بل إلى أن يجدف الجميع ، كل حسب إمكانياته ،حتى يرسي القارب على بر الأمان.
هكذا يتحمّل الشعب الذي يقيّم ماضيه، بموضوعية ودون تجنيّ، مسؤولية حاضره ومستقبله دون الحاجة إلى بعث نبي يعلّق عليه آماله ويسقط عليه احباطاته وخيباته...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115