قراءة في عصر الأزمة المتعددة

ظلت الأزمة لزمن طويل تُفهم على أنها شذوذ

في المسار الطبيعي للأمور، قوس عابر بين مرحلتي استقرار. كان يُنظر إليها على أنها فترات قصيرة من الاضطراب، تعقبها عادة مرحلة من الاستقرار والطمأنينة، حيث تعود الدول والمجتمعات إلى مسارها الطبيعي، وتتواصل حياة الناس بشكل منتظم. لكن مطلع القرن الحادي والعشرين قلب هذا المنطق رأسًا على عقب. فالمجتمعات المعاصرة لم تعد تمر بأزمات متعاقبة فقط، بل باتت تعيش في بيئة تتراكم فيها الصدمات وتتداخل وتعزز بعضها البعض، بحيث تصبح الأزمة جزءًا دائمًا من النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وليس مجرد حدث عابر. هذا التحول أنتج مفهومًا محوريًا لفهم العصر الراهن: الأزمة المتعددة أو "Poly-crise"، وهو مفهوم يعكس الطبيعة المترابطة والمركبة للصدمات الحديثة التي لا تعرف حدودًا زمنية أو جغرافية.

هذا المفهوم، الذي تبلور في أعمال المفكر الفرنسي إدغار موران، ثم أعاد المنتدى الاقتصادي العالمي توظيفه في تقاريره التحليلية، يصف حالة تتقاطع فيها أزمات من طبيعة مختلفة - جيوسياسية، اقتصادية، مناخية، صحية، تكنولوجية واجتماعية - ضمن شبكة تفاعلات غير مستقرة. لم يعد العالم أمام مجرد تراكم اختلالات مستقلة، بل أمام ترابط بنيوي يجعل أي أزمة واحدة قادرة على التأثير في سلاسل طويلة من الأحداث الأخرى. فالأزمة المتعددة لم تعد حالة استثنائية، بل أصبحت القاعدة الجديدة التي ينتظم وفقها العالم، حيث لم يعد من الممكن تصور حياة طبيعية مستقرة بمعزل عن الأزمات المستمرة.
البؤر الخمس للأزمة المتعددة المعاصرة

يمكن قراءة الأزمة المتعددة الراهنة كتقاطع لخمس ديناميكيات كبرى من عدم الاستقرار، كل واحدة منها تتفاعل مع الأخرى بشكل معقد، بحيث يصبح كل توازن هشًا وغير مضمون.
1. الأزمة الجيوسياسية: تمثل العودة العنيفة للصراع عالي الحدة، وتآكل التعددية الدولية، وإعادة النظر في التوازنات الموروثة من حقبة ما بعد الحرب الباردة. الحروب المفتوحة والمواجهات غير المباشرة وعسكرة التبادلات الاقتصادية تعيد رسم موازين القوى، بينما تحاول الدول الكبرى استعادة نفوذها عبر أدوات ضغط جديدة، سواء من خلال العقوبات الاقتصادية أو التحالفات العسكرية أو النفوذ الرقمي. هذه الأزمة لا تقتصر على النزاعات المباشرة، بل تشمل أيضًا إعادة رسم النفوذ في الفضاءات البحرية والفضائية والإلكترونية، ما يجعل أي تحرك إقليمي يحمل تبعات عالمية محتملة.
2. الأزمة المناخية: تعمل كمُضاعف للتهديدات على المستويات السياسية والاجتماعية. الجفاف والفيضانات وشُح المياه وانعدام الأمن الغذائي ونزوح السكان، كلها تتحول إلى عوامل توتر سياسي واجتماعي، بحيث تصبح الكوارث الطبيعية حاضنة لصراعات بشرية ممتدة. المناخ لم يعد قضية قطاعية، بل أصبح متغيرًا جيواستراتيجيًا رئيسيًا، يتداخل مع الاقتصاد والطاقة والأمن، ويعيد ترتيب الأولويات الوطنية والدولية. تأثيره يمتد من الدول الفقيرة، الأكثر هشاشة أمام الكوارث، إلى الدول الكبرى التي تعتمد على استقرار الأسواق الزراعية والطاقة لضمان نموها.
3. الأزمة الاقتصادية والمالية: تتميز بالمديونية الهائلة، والتضخم البنيوي، وهشاشة الطبقات الوسطى، وتفاقم التفاوتات الاجتماعية. أدوات الاستقرار الموروثة من القرن العشرين، مثل السياسات النقدية التقليدية أو صندوق النقد الدولي، تبدو أقل فعالية في عالم الصدمات الدائمة، حيث تتداخل الأزمات الاقتصادية مع أزمات المناخ والطاقة والسياسة، ما يجعل أي محاولة لمعالجة أزمة واحدة دون الأخريات غير كافية. الاقتصاد أصبح هشًا ليس فقط بسبب الأرقام، بل بسبب التعقيد البنيوي للعلاقات بين الأسواق والسلطات والمؤسسات المالية العالمية.
4. الأزمة التكنولوجية: تكمن في الهيمنة المتزايدة للمنصات الرقمية، وتوسع الفضاء السيبراني كساحة صراع، والانتشار المتسارع للذكاء الاصطناعي. الفضاء المعلوماتي أصبح ميدان قتال حقيقي، حيث تُستخدم البيانات والمعلومات كسلاح سياسي واقتصادي، وتصبح القدرة على إدارة الفضاء الرقمي مؤشراً على القوة الحديثة. الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا في الحياة اليومية والاقتصاد والسياسة جعل كل ثغرة تقنية أو هجوم سيبراني يحمل تبعات عابرة للحدود.
5. أزمة الشرعية السياسية: تتجلى في انعدام الثقة بالمؤسسات، وتآكل العقد الاجتماعي، وصعود الشعبويات، والإرهاق الديمقراطي. السياسة غالبًا ما تبدو عاجزة أمام ديناميكيات لم تعد تسيطر عليها، حيث تتصادم مطالب المواطنين مع محدودية الموارد وإجراءات الحكومات، ما يزيد الإحباط ويعزز التطرف والعزوف عن المشاركة السياسية.
نهاية وهم الاستقرار

من أهم ما يقدمه مفهوم الأزمة المتعددة هو كسر الفكرة القائلة بأن العالم يتناوب بطبيعته بين مراحل استقرار وفترات اضطراب. الاستقرار لم يعد سوى لحظة عابرة في حقل قوى غير مستقر بالأساس. المؤسسات الدولية الكبرى صُممت لمعالجة أزمات قطاعية: الأمن الجماعي، التجارة، المال، الصحة. لكن الأزمة المتعددة تتطلب استجابات أفقية ومنسقة، قادرة على العمل على جبهات متعددة في آن واحد. البنية الدولية، المجزأة والمقسمة حسب المجالات، تظهر عدم ملاءمتها للطبيعة المنظومية للصدمات الراهنة.
ولا يقتصر التحدي على قصور المؤسسات الدولية، بل يمتد إلى قدرة الدول نفسها على التنسيق الداخلي. الحكومات غالبًا ما تعمل ضمن صوامع مؤسساتية منفصلة، حيث تتداخل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بطرق غير متكاملة، مما يزيد من هشاشة استجاباتها أمام الصدمات المتلاحقة. في عالم تتشابك فيه الأزمات على نحو معقد، يصبح أي تأخير أو قصور في التنسيق مضاعفًا لتأثير الأزمة، ويجعل من كل صدمة محلية جرس إنذار دولي، يفرض إعادة النظر في أساليب الحكم والتخطيط الاستراتيجي.
أثر الفراشة وتسارع العالم

في سياق الأزمات المتعددة، لم يعد ما يُعرف بتأثير الفراشة “effet papillon” مجرد استعارة بل تحول إلى منطق فعلي لعمل العالم. حدث محلي قد يخلّف آثارًا جيوسياسية كونية. هجوم رقمي يشلّ سلاسل التزويد، جفاف محدود يشعل اضطرابًا سياسيًا عابرًا للقارات، وأزمة مصرفية وطنية تُطلق موجة ارتدادية عالمية. هذه الديناميكية لا تنفصل عن انضغاط الزمن. المعلومة تنتقل بسرعة الضوء، الأسواق تتفاعل لحظيًا، الرأي العام يتحرك فورًا. الحكومات، في المقابل، تواصل العمل وفق إيقاعات ثقيلة وبيروقراطية وغالبًا غير متزامنة، ما يزيد من فجوة الاستجابة بين الحدث وتداعياته.
سيادة متآكلة وهشاشة استراتيجية

تكشف الأزمة المتعددة حدود السيادة التقليدية وتآكل قدرتها الفعلية على الضبط. فالدول لم تعد تتحكم وحدها في مفاتيح قوتها الأساسية: البيانات، الفضاءات الشبكية، الأنظمة النقدية، المعايير التقنية، والتدفقات اللوجستية. أما السيادة الناشئة، سيادة العصر الرقمي، فهي سيادة مجزأة، تقوم على التفاوض الدائم، وتتشكل تحت ضغط فاعلين غير دوليين ومنظومات فوق وطنية.
القوة لم تعد تُقاس فقط بالقدرة على فرض الإرادة، بل أكثر فأكثر بالقدرة على مقاومة الصدمات المنظومية. الهشاشة تصبح مؤشرًا استراتيجيًا بحد ذاتها: هشاشة الطاقة، الغذاء، الرقمنة، المال، المجتمع. في عالم الأزمات المتعددة، لا أحد، مهما كانت قوته، محصن من تأثير الدومينو.
الفوضى المعرفية العالمية

ليست الأزمة المتعددة محصورة في الاقتصاد والسياسة الدولية فحسب، بل تمتد إلى البنية المعرفية ذاتها. تراكب الصدمات المتزامنة يعطل إمكان ترتيب الأولويات. المجتمعات تعيش تحت سيل مستمر من الأحداث العنيفة، دون أن تتمكن من تحويلها إلى سردية زمنية متماسكة. هذا التضخم المعلوماتي يغذي القلق النفسي، ويعزز الراديكالية، ويفكك السرديات الجامعة. الصراع على المعنى يتحول إلى مجال صراع سياسي مباشر. واقع مفرط التعقيد، عصيّ على التفسير بقدر ما هو عصيّ على التحكم.
وفي هذا السياق تتصدّع المرجعيات التقليدية لإنتاج المعنى: المدرسة، والنخب، ووسائل الإعلام، وحتى النخبة السياسية نفسها، تفقد قدرتها على لعب دور الوسيط بين الحدث وفهمه. تتزاحم الروايات، وتتنافس التأويلات، وتتشكل فقاعات إدراكية مغلقة، يصبح فيها كل مجتمع أسير روايته الخاصة للعالم. هكذا لا يعود الخلاف على الوقائع، بل على معنى الوقائع ذاتها، فيتحول الارتباك المعرفي إلى عنصر إضافي من عناصر عدم الاستقرار البنيوي.
مأزق الحوكمة الدولية

أمام الأزمة المتعددة، تبقى الاستجابات الدولية قطاعية إلى حد كبير. كل مؤسسة تعمل في نطاقها، دون تنسيق كافٍ مع حقول التنظيم الأخرى. منطق القوة يواصل طغيانه على الاستجابات التعاونية طويلة الأمد. الحوكمة العالمية تبدو محاصرة في تناقض بنيوي: المشاكل عالمية ومنظومية ومترابطة، بينما آليات القرار تبقى وطنية ومجزأة وغالبًا متنافسة. هذا الانفصام يغذي شعور العجز السياسي ويعزز إغراء الانكفاء السيادي.
في ظل هذا الانقسام البنيوي، تصبح الاستجابات الدولية محدودة الفاعلية، حيث تتصارع الأولويات الوطنية مع الحاجة إلى تنسيق عالمي. الدول الكبرى غالبًا ما تسعى لحماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية قبل أي اعتبار للتعاون متعدد الأطراف، بينما تواجه الدول الصغيرة ضغوطًا مضاعفة بسبب هشاشتها الاقتصادية والسياسية. هذا التفاوت في القدرة على التأثير يولّد شعورًا بعدم العدالة ويضعف الثقة بين الدول، ما يزيد من صعوبة تبني سياسات جماعية لمواجهة الأزمات المتعددة. بالتالي، يصبح الفضاء الدولي ساحة توتر دائم، تتحرك فيها المبادرات الفردية والانفرادية غالبًا، بينما تبقى الاستراتيجيات الشاملة غائبة أو متأخرة، ما يضاعف الأثر السلبي للصدمات ويجعل أي أزمة محلية ذات تأثير عالمي محتمل.
الأزمة المتعددة كمصفوفة لإعادة التشكيل السياسي

الأزمة المتعددة تعمل كمُسرّع لتحولات عميقة. إنها تدفع نحو مركزة السلطة في بعض الدول باسم الطوارئ الدائمة، بينما تُضعف في أماكن أخرى أنظمة محل تشكيك أصلاً. تغذي الخطابات الأمنية، وتبرر تقييد الحريات، وتشرعن توسيع أجهزة المراقبة.
بالتوازي مع ذلك، تنبثق فضاءات جديدة للاحتجاج وللحركات العابرة للأقاليم، وتتجدد أشكال التضامن. منطق الصراع لا يختفي، بل يعيد التشكل وفق جغرافيا جديدة وفاعلين جدد، ما يفتح آفاقًا لإعادة التفكير في طبيعة المشاركة الشعبية والدور الجماعي في صياغة المستقبل.
العيش المستدام في عدم الاستقرار

الأزمة المتعددة تطرح سؤالاً محوريًا: هل هي مرحلة انتقالية من الفوضى العالمية أم عصر تاريخي جديد قادم للبقاء؟ كل المؤشرات تدل على أن العوامل التي تغذيها - الترابط، التسارع، الاختلال المناخي، الثورة التكنولوجية، أزمة الحوكمة - ليست ظرفية، بل بنيوية. العالم يدخل إذن حقبة يصبح فيها اللايقين أفقًا دائمًا وليس لحظة عابرة. التفكير في الأزمة المتعددة ليس فقط وصف تراكم أزمات، بل استجواب قدرة المجتمعات الإنسانية على العيش بشكل مستدام في عدم الاستقرار، دون الاستسلام للفوضى أو للاستبداد أو لوهم العودة إلى النظام القديم.
بقلم أمين بن خالد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115