بالنسبة إليهم، يُعتبرُ المنصف الوهايبي الأستاذ الجامعي المتميّز: تخصّص نقد الشعر القديم والحديث وعضو المجلس العلمي لمؤسسة بيت الحكمة للعلوم والآداب والفنون، وجه ثقافي إبداعيّ مشهور في الشعر والنقد وكتابة السرد الرّوائي. والصورة الأكثر شيوعا وسطوعا هي الوهايبي الشاعر الحداثي المبدع الذي ركب صهوة القول الشعري وإبداع القصيد وحمل لواء التحديث في مجال كتابة الشعر شكلا ومضمونا؛ فنّا ومعاني.. بدأ ذلك منذ منتصف سبعينات القرن العشرين.. ليظهر لاحقا ومن خلال ضرب من الانزياح عن عالم الشعر - وكأغلب كبار شعراء عصرنا- ميل إلى فنّ الرواية، فكتب الوهايبي سرديات روائية فريدة من نوعها، جاءت شكلا فنيّا ودلالات فكرية نقدية عميقة على واقع مأزوم وشهد تشظّي للذّات الجماعية، بعد أن كادت تعصف بها إديولوجيات متطرّف دينيّة إسلامويّة ويسارويّة باتت محنّطة، تشهد انفصاما بين يوطوبيا الثوري وقتامة الواقع، ولم تقدر أطروحاتها على استيعابه في مستوى التمثّل المعرفي، وأخرى ليبيراليّة متقلبّة لا تحرّكها إلّا مصالح ظرفية وفكرها لا يتجاوز مقولات تُردّد ترديدا أجوف..
وللتذكير فإنّ الوهايبي قد أصدر من قبلُ كذلك عملين روائيين، قرأت بإعجاب واحدة منهما، وأعني "عشيقة آدم" الصادرة سنة 2012. والأخرى وسمت بعنونة جاءت في قالب سؤال؛ كالآتي: "هل كان بورقيبة يخشى حقّا معيوفة بنت الضاوي"؟ (2011) لم تتح لي فرصة قراءتها...
2)- شعر الحداثة ومدرسة القيروان: النزعة الصوفيّة وجدليات التأصيل والتحديث
ولقد صار معلوما من قبل اعتبار الوهايبي واحد من مدرسة القيروان الجديدة في الشعر العربي الحديث والأدب والمسرح مع محمّد الغزّي والأخوين القهواجي (بشير ثمّ حسين) وعبد العزيز الحاجي ثمّ صلاح الدّين بوجاه.. وغيرهم.. وهي مدرسة بدت ذات صلة بالتراث القديم الأدبي والفلسفي الكلاسيكي، منفتحة على متون النصوص الصوفية والكتابات العرفانية لدى شعراء القيروان وزهادها الأوائل، إذ ظهرت الحاجة وتبعا إلى مطالعة أعمال كبار شعراء الصوفية من أساطين الحكمة الإشراقية والعشق الصوفي في أبعاده الكونية القصوى لدى ابن عربي والسهرودي وجلال الدين الرومي وعبد القادر الجيلاني، ومن قبلهم الحلّاج ورابعة والنفّري والبسطامي إلى إعادة الروح إلى هذا التراث ووصل بقضايا الإنسان المعاصر والبحث فيه عن قيم وجماليات مجدية، زمننا يحتاجها أكثر يوما بعد يوم، وهو ما كان صدى منه حاضرا في أحد أبرز مجموعات الوهايبي الأولى "ألواح" (1982)... وقد حاول الوهايبي على طريقة الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وأدونيس أن يربط الرّوح الصوفيّة العالية بنزعة ثورية تقدّمية في الفكر والحياة والحرية والتجديد، حين اعتبر أنّ حداثة الشعر العربي قد تستلهم من التصوّف والتراث الفكري العرفاني والروحي، دون تماثل وتطابق تامّ، بل لأجل النزوع إلى خلق فعالية جمالية شعرية ثورية تخلّص الشعر من أن يكون "تابعاً للفعل لأنه هو في حد ذاته فعل" ولاسيّما وانّه بإمكان الشعر العميق المتفرّد فنّا المميّز لغة ومعنى أن "يستوعب لحظته التاريخية (ويصبح) قادراً على الإفلات منها ليتنزل في منزلة الملحمة الخالدة".
3) – من فعاليات يوم أكوان المنصف الوهايبي
جاء في الورقة التقديمية لليوم الدّراسي الذي نظّمه قسم العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة - سوسة بتنسيق محكم للأستاذ حاتم الفطناسي إنّ: القول الشعري يصدر عن المنصف الوهايبي، من بين الذائقة الجمالية القديمة إيقاعا ورؤية والتجربة الإبداعية الحديثة في أحدث مظاهرها وتلويناتها... يبادرك نصّه الشعريّ. وبين القصيد والسرد والتّخييل والحالم والملتزم والإنسانيّ المتعالي والسياسيّ النضالي يتراءى لك مشروعه. وبين النقدي المعرفيّ الأكاديميّ والإبداعيّ التشكيليّ الفنّي تظهر لك صورته.
إنّه المنصف الوهايبي الواحد المتعدّد الثابت المتحوّل، قد غدا عنوانا أساسيا من عناوين الحركة المعرفيّة والإبداعية التونسيّة والعربية متجاوزا البعد المحليّ والوطني، ورابيا على البعد الثقافيّ القوميّ ذاته نحو البعد الإنسانيّ والعالميّ.
هكذا تكوّن ثراء تجربة وتعدّدها، تلك التجربة التي كان سندها قوّة إحاطته بالتراث العربيّ وشدّة مراسه له وانفتاحه في ذات الآن على الإنسانيّ وعمق إحساسه به، لينتصب الوهايبي، الشاعر والنّاقد والأكاديمي، علامة أساسيّة من علامات المشهد الثقافيّ والإبداعي العربيّ. ويتحوّل بذلك إلى وجهة بحثيّة ومشروع نظر مخصوص بالوجاهة والضرورة. من ثمّ كان تناول مشروعه الإبداعي والمعرفي النقدي من خلال المحاور:
- التجربة الإبداعيّة الشعريّة بين التنميط والتجريب.
- التجربة الإبداعيّة السرديّة بين المرجعيّ والتخييليّ.
- التجربة النقديّة المعرفيّة بين التراثيّ والحداثيّ.
- التجربة النضاليّة بين الذاتيّ والإنسانيّ.
ذلك ما كان محور اليوم الدّراسي، بدءا من كلمات الجامعة وعميد الكلية الأستاذ محمّد بوهلال ورئيس القسم الأستاذ رضا حمدي، والمنسق الأستاذ حاتم الفطناسي. ليُفسح المجال من بعد للمدخلات العلمية التي قدّمها الأساتذة: أحمد الجوّة، "قصار القصائد في نماذج من شعر الوهايبي". رضوان البريكي "منصف الوهايبي مترحّلا"، ونّاسة النصراوي: "المنصف الوهايبي شاعر أزمنة الضيق". حياة الخياري "الرّمز وتمثّلاته الثقافية في نماذج من شعر الوهايبي". جميل بن علي "شعرية الذاكرة في ديوان بالكأس ما قبل الأخيرة". فتحي النصري "التأثير في شعر الوهايبي". سمير السحيمي "تخييل الفضاء في نماذج من شعر الوهايبي". شيراز دردور "المنهج النقدي عند الوهايبي بين التراث والحداثة". رياض خليف: السارد للجميع في روايات الوهايبي". عبد الوهاب لاشتوي "من خصائص الكتابة الشعرية عند الوهايبي".
هكذا تعدّدت صور الاشتغال على كتابة شعرية حالمة متأملة، تحفر في ذاكرة المكان لتي يحاول أن يتمثل صورتها ودلالتها في الذاكرة والتاريخ وفي ممكن الدلالة والوجدان وحيرة الفكر.
بقلم :محمد الكحلاوي - استاذ بجامعة قرطاج