شذرات من عثرات الانتقال الديموقراطي.. نحو الإنحدار الشاهق

بقلم خالد الكريشي

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا
وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا


وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ
وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ
وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا
الأمام الشافعي
إستهلال
منذ 14 جانفي 2011 تعيش تونس ككل البلدان التي شهدت ثورات أو انتفاضات أو تحركات إحتجاجية عنيفة نتج عنها سقوط النظام السياسي الحاكم مرحلة الانتقال الديمقراطي من دولة الاستبداد إلى دولة الحرية والديموقراطية ، محركها صراع ظاهر وخفي بين نظام سياسي مستبد ساقط ونظام سياسي ديموقراطي في طور التشكل وتلعب هنا الدولة العميقة / الادارة الدور المحوري في هذا الصراع فهي من ناحية تعمل على الحفاظ على وجودها وإمتيازاتها من ناحية وعلى التأقلم مع الوضع الثوري الجديد ، وهذه مفارقة عجيبة لأن النظام الديمقراطي سيولد من رحم نظام استبدادي كما يولد الجنين من بطن أمه وتصبح في الغالب المعركة بينهما معركة وجود لا معركة حدود يسعى أحيانا كل واحد منهما لنفي الآخر ولا يتصارعان حول حدود مساحة فعلهما السياسي في المجتمع وفي الدولة فقط ،فهل نتخيل مجرد التخيل أن ينشأ بين الأم وجنينها بعد إصابتهما بمرض ما صراع وجودي أيهما يبقى على قيد الحياة ؟! على أن يحيا الاثنين معلولين مشوهين وقد يتدخل الطبيب للتضحية بأحدهما كما تتدخل آليات العدالة الانتقالية ( كشف الحقيقة ، المسائلة والمحاسبة ، الإعتراف والإعتذار ، جبر ضرر الضحايا ، حفظ الذاكرة ، المصالحة الوطنية ...) بين النظامين / الزمنين في محاولة لتعديل الكفة عبر تصفية تركة انتهاكات حقوق الانسان وتفكيك منظومة الإستبداد والفساد وضمان الانتقال السلمي إلى الدولة الديموقراطية مع ضمان وضعية مريحة جدا للنظام السابق مؤسسات وأفرادا وفكرا ، فالثورة هي نقطة الإنطلاق والدولة الديموقراطية هي نقطة الوصول وبينهما طريق طويل وشاق ،متعرج نزولا وصعودا يسمى مسار الانتقال الديموقراطي ، وأغلب التجارب المقارنة على كثرتها التي فشلت فيها مرحلة الانتقال الديموقراطي رافقها فشل مسار العدالة الانتقالية والعكس صحيح على قلتها ، فالطريق إلى الدولة الديموقراطية ليس بالطريق السهل والهين بل كله أشواك وألغام لا تعلم متى وأين تنفجر ، طريق كهذا الطريق في بلد لم يعرف التقاليد الديموقراطية الأصيلة عنوانه التردد و الاضطراب والتقدم بخطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء ، طريق كموج البحر صعودا ونزولا وقد عرف العالم خمس موجات للانتقال والتحول الديموقراطي ، الأولى عقب الثورتين الفرنسية والأمريكية ، والثانية عشية الحرب العالمية الثانية ، والثالثة كانت بداية سبعينات القرن الماضي شملت بعض بلدان أوروبا الجنوبية كإسبانيا واليونان والبرتغال ، والموجة الرابعة وقعت بداية تسعينات القرن الماضي شملت المعسكر الاشتراكي و بعض بلدان أوروبا الشرقية كأوكرانيا وصربيا وجورجيا ، أما الموجة الخامسة فهي التي يعيشها حاليا الوطن العربي منذ سنة 2011 وشهدت كل موجة من هذه الموجات وتشهد داخل كل منها انتكاسات وارتدادات إلى وصلت إلى ما وصلت إليه ومن كان ينتظر انتقال ديموقراطي جميل سليم معافى من الأدران مدا دون جزرا لا تشوبه أي شائبة سينبت الربيع على قبره دون أن يراه .
في " الإستثناء التونسي"
لم تشذ تونس بوصفها بلدا من بلدان الموجة الخامسة للديموقراطية عن هذه القاعدة بل كانت تتحمل وزر نجاح أو فشل تجربة الانتقال الديموقراطي في البلدان العربية التي عرفت أحداثا وظروفا مشابهة بوصفها القائدة للموجة الخامسة على المستوى الزمني فقط وكانت بمثابة المخبر التي تقيس به بقية الدول العربية خطواتها المتعثرة في محاولة للجواب عن سؤالين : هل نستحق فعلا كشعب عربي الديموقراطية ؟ وهل يوجد حقا " الإستثناء التونسي " ؟*
يبدو أن "الاستثناء التونسي" لم يبق منذ 25 جويلية 2021 استثناء وعادت بذلك تونس إلى القاعدة العربية الأصيلة في عدم استيعابها وقابليتها لفكرة الديموقراطية وآلياتها ، تلى ذلك كبوات وعثرات من كبوة الأمر عدد 117 إلى عثرة إفشال مسار العدالة الانتقالية إلى كبوة الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى عثرة ضرب الحريات العامة والخاصة والإنغلاق السياسي إلى كبوة دستور 2022 وإلى كبوة الكبوات وعثرة العثرات : موت السياسة في تونس وهي كلها شذرات عادية وضرورية لتحقيق صدمة النخبة السياسية في مرحلة الانتقال الديموقراطي لعلها تستفيق من سكرتها الوهمية وربما تساعدها على النزول من أعلى الشجرة إلى الواقع خاصة وأن هذا الانحدار الذي نعيشه اليوم لم يستثن أحدا على كافة المستويات وفي كل المجالات ، إنحدار مركب ومعقد ، أفقي وعمودي يشمل كافة القطاعات المهنية و مكونات المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات ونقابات وكذلك مؤسسات السلطة السياسية الحاكمة العاجزة عن الحكم وإدارة الشأن العام والمعارضة من أحزاب وتيارات سياسية العاجزة عن تحقيق أي تغيير في الواقع في مواجهة سلطة سياسية استفردت بكل شيء بعد 25 جويلية 2021 مما عمق من أزمتها الداخلية والخارجية كانت سببا في تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مقابل معارضة هشة ضعيفة عجزت عن إدارة الخلافات داخلها وفي علاقتها بالآخر والالتقاء حتى على الأدنى المطلوب وأضحت محل رفض واستهزاء الجميع ، إنه توازن الضعف بين السلطة والمعارضة كان من نتائجه الجمود و غياب السياسة في مفهومها العام من المجتمع وسط اتهامات متبادلة بتحمل المسؤولية ، الجميع يتهم الجميع بالمسؤولية عن الانحدار الشاهق الماحق الساحق ، سلطة مكابرة في حالة من الانكار الدائم والهروب إلى الأمام تلقي بالمسؤولية على المعارضة واصفة إياها بالفساد والعمالة والاستقواء بالأجنبي والعجز عن تقديم الحلول ومعارضة ضعيفة مشتتة عاجزة تتهم السلطة بالمسؤولية عن كل ما يحدث وما سيحدث مستقبلا دون تقديم البديل ودون أن تكلف نفسها التوقف لمواجهة مواقفها واختياراتها والقيام بالمراجعات اللازمة وتقديم نقدها الذاتي لأن الكل مسؤول عن هذا الإنحدار الشاهق ومعانقتها للأزمة وإن كان بدرجات متفاوتة .
مالعمل ؟ في إنتظار " اليوم التالي "...
يطرح البعض اليوم ضرورة توحيد المعارضة في هيكل واحد كشرط أولي وضروري لإنجاح مسار الانتقال الديموقراطي والوصول إلى نقطة الوصول / الدولة الديموقراطية والحال أن هذا طرح مغلوط مغشوش لعدم وجاهتها وتنافيها من طبيعة العمل السياسي القائم على أساس التنافس بين التيارات والأحزاب السياسية بناء على البرامج السياسية والإقتصادية والإجتماعية وليس بناء على الانتماء الإيديولوجي ، فشرط توحد المعارضة في أعرق التجارب الديموقراطية في العالم والتي حققت نجاح مسارها للإنتقال إلى الديموقراطية لم ولن يوجد أبدا وهو مجرد كذبة كبرى ولا توجد إلا في ذهن من يبحث عن شماعة لعدم الفعل السياسي في الواقع كمن يضع شرط ضرورة القيام بالمراجعات والنقد الذاتي قبل الالتقاء السياسي متناسيا أن الممارسة في الواقع تغني عن آلاف الدراسات حول المراجعات والنقد الذاتي مثلما فعلت حركة الشعب بترشيح أمينها العام في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ببرنامج انتخابي متكامل في مواجهة مرشح قائد مسار 25 جويلية 2021.
وما يعمق الأزمة أكثر هو غياب طبقة سياسية تشتغل بكل شيء إلا بالسياسة علاوة على ما تعانيه من آفة سيطرة الإيديولوجيا على السياسة وتلذذها بالبقاء في كهوف التاريخ والترف الفكري وما يرافق إرتباط الإيديولوجيا بالعواطف والشخصنة والمزاجية والأفكار النظرية المجردة في حين أن السياسة لا تدار بثنائية : الحب/ الكره ، وبالأنا/ الغير وداخل كل عائلة سياسية تقليدية في تونس ( العائلة الشيوعية، العائلة القومية ، العائلة الإسلامية ، العائلة الدستورية والعائلة الليبرالية) تيارات متعددة دوما متنافرة ومتضادة أحيانا فيما بينها ، فمالذّي يمنع من توحد العائلة السياسية الواحدة في تنظيم سياسي حزبي واحد موحد غير الإرتباط الكاثوليكي بالشخصنة والعواطف وثنائياتها وهو ما عبرت عنه مسيرة غرة ماي الخميس المنقضي التي تحولت إلى حلبة تطاحن إيديولوجي بين الإخوة والرفاق الأعداء على جزر متناثرة وقد تفرقوا شذر مذر إلى ملل ونحل كل يغني على ليلاه الإيديولوجية زاعما أنها الأجمل والأنقى والأسمى والأطهر وغيره ليس سوى وجه الحطيئة وقد شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله ، وأنه الفرقة الناجية المالكة الحصرية للحقيقة المطلقة بعد أن حقق مبتغاه في ضمان نقلة المناكفات الفايسبوكية التافهة إلى الشارع مستقويا به رغم ثبوت تهافت وضحالة سردية " إنّه يترنح" طيلة أربع سنوات، متغافلا على أن الصندوق الانتخابي الديموقراطي هو الآلية الوحيدة لإحداث التغيير السياسي ، فما أكثر نساء ورجال الإيديولوجيا وما أقلهم في السياسة .
ليس المطلوب اليوم العمل على توحيد المعارضة أو فرض تقديم المراجعات والنقد الذاتي على الغير بقدر ما يتطلب التخلص من براثن الفهم والتوظيف السيء للإيديولوجيا والتحرر من القراءة السلفية المغلقة للمرجعية الفكرية والإيديولوجية وتقديم " في اليوم التالي " بدائل سياسية وإقتصادية وإجتماعية حقيقية وناجعة من العائلات السياسية الخمس والمتقاطعة فيما بينها حول بعض البرامج يتم الفرز بينها في المحطات الانتخابية القادمة ( بلدية ، تشريعية ، محلية ، رئاسية ) عبر الصندوق الانتخابي الديموقراطي لا غير ، وإلى ذلك الحين وخلال فترة ما قبل " اليوم التالي " المطلوب فقط من المعارضة سن " ميثاق أخلاقي " لتنظيم إدارة الاختلاف فيما بينها ، مادون ذلك سنظل نراوح مكاننا ونحن أسرى الماضي نتلذذ بالمناكفات التافهة حول جنس الملائكة ، ذكر ؟ أم أنثى ؟ ، نعيب السلطة والعيب فينا ، فما ظلمنا إلا أنفسنا ، وكم من مخطئ إلا ونفسه أشد ضحاياه تضررًا بخطئه مهما بالغ في ظلم غيره.
------
* حول معوقات الانتقال الديموقراطي في تونس يراجع كتابي " تونس من الثورة إلى الدولة ، حديث ما بعد 14 جانفي 2011 " طبعة أولى ، مجمع الأطرش للكتاب المختص ، تونس 2016 ص 47 وما بعدها. ويراجع كذلك مساهمتي في كتاب " العدالة الانتقالية والإنتقال الديموقراطي في البلدان العربية ، المجلد الثاني : التجربة التونسية " الطبعة الأولى ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، بيروت 2022 ص 181.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115