العاملات الفلاحيات التونسيات: قصّة نضال من أجل الكرامة رغم التهميش والنسيان

بقلم هالة بن يوسف ناشطة من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين نائبة رئيسة الأممية الاشتراكية للنساء

"دور الدولة الاجتماعي"، هو أحد أبرز الشعارات التي ترفعها السلطة السياسيّة،

سواء الحاكمة حاليّا أو تلك التي إرتقت إلى سدّة الحكم خلال الحقبات الماضية، وعلى الرغم من أنّ هذا الشعار الجامع إعتمد كعنصر مركزي في الخطابات السياسية إلاّ أنّ آثاره على أرض الواقع تكاد تكون منعدمة.
وعلى سبيل المثال، فئة العاملات الفلاحيات تعاني من التهميش المزمن وتجابه بصمت مطبق طال أكثر ممّا ينبغي لتبقى العاملات ضحايا النسيان وإنعدام كلّ أشكال الكرامة.
في ريف القيروان وجندوبة وسيدي بوزيد وغيرها من الأرياف، يركبن غصبا شاحنات مهترئة، مكدّسات مثل البضائع في صورة مهينة للدولة الاجتماعية التي يتبجّح بها المسؤولون، وسط الغبار أو الصقيع أو تحت وطأة الحرّ الخانق، بصمت، دون عقود، دون تغطية إجتماعية، دون تأمين، دون حقوق، ولكن بكرامة وعزّة نفس وضمير حيّ لا ينتظر من أحد جزاء ولا شكورا، فلا يربطهنّ بالدولة، كما قالت إحداهنّ ذات يوم في أحد المنابر الإعلامية، إلاّ بطاقة التعريف الوطنية وعمود الكهرباء التابع للشركة التونسية للكهرباء والغاز.
هؤلاء النسوة هنّ تجسيد للكرامة، صورة حيّة للعطاء والمثابرة، يُطْعِمن تونس من شمالها إلى جنوبها، وعلى الرغم من ذلك، ليس لهن مكان ولا أثر حتّى في الإحصاءات الرسمية. وهذا عين اللؤم.
الأرقام القليلة التي نجدها في بعض التقارير صادمة: 500 ألف امرأة ريفية، 47٪ منهن عاملات عرضيات و76٪ بدون تغطية اجتماعية. يقدّر متوسط الأجر الشهري للمرأة العاملة في المجال الفلاحي 220 ديناراً. 1٪ فقط منهنّ يمتلكن أرضاً فلاحية و6٪ فقط يمتلكن مسكن. ومع ذلك، يواصلن العمل بدافع الكرامة وبدافع الضرورة.
وبما أنّ المصائب لا تأت فرادى، فبالإضافة إلى قساوة الوضع الاجتماعي واستقالة الدولة عن مسؤوليتها تجاههنّ، جاءت جائحة الكوفيد-19 لتفعل بدورها فعلتها وتفاقم فقرهن، كما زادت الحرب في أوكرانيا والتغيّرات المناخية الطين بلّة، فأصبح القمح جرّاءها نادراً والماء شحيحا، فيجدن أنفسهنّ مضطرّات للتنقّل إلى أماكن أبعد لجمع الحطب وحمل الدلاء ومواجهة الانهيارات الأرضية. إن تعبهن لم يعد فقط اجتماعياً، بل أصبح مناخيّاً أيضاً.
حتّى قوانين الميراث لم تنصف النساء العاملات في المجال الفلاحي، فالأرض ملك للرجال، كأن تعب النساء لا يستحق الميراث وكأنهن محكومات بتشييد بيوت الآخرين، لا بيوتهن. لقد حان الوقت لكسر هذه الحلقة الظالمة ومراجعة قوانين الميراث قصد إضفاء أكثر عدالة ومساواة بين الرجل والمرأة لا سيما في ملكية الأراضي، لأنه من دون أرض لا يمكن الحديث عن استقلالية ولا تحرّر ولا كرامة.
أمّا النقل فهو أيضا حلقة أخرى من مسلسل المأساة المتكررة والمهينة. توفيت أكثر من 60 امرأة وأصيبت 500 أخرى بجروح منذ سنة 2015 وسط تجاهل تامّ من كلّ المسؤولين المتعاقبين. وإلى اليوم لازالت نفس الشاحنات تقلّ النساء العاملات في الوسط الريفي ولازالت نفس الطرقات تقبض أرواحهنّ الطاهرة ونفس أرباب العمل الذين لا ضمير لهم يمتصّون دماؤهنّ دون شفقة ولا رحمة، والسلطات لا تسمع ولا ترى ولا تتكلّم. النقل الفلاحي ليس مجرد مسألة لوجستية، بل هو عنف ممنهج تمارسه السلطة في حقّ هذه الفئة الهشّة والمقموعة.
وعلى الرغم من كلّ هذه العوامل المثبّطة، إلاّ أن النساء العاملات في الوسط الريفي يواصلن الكدّ والعمل، يشمّرن على سواعدهنّ ويجتهدن، وينظّمن صفوفهن ببطء، ولكن بثبات، ينشئن تعاونيات ونقابات محلية ويحدثن شبكات تضامن لسدّ الشغور الحاصل جرّاء تراجع الدولة وإعتمادها لمبدأ "إذهب أنت وربّك فقاتلا، إنّا ههنا قاعدون".
الكلّ يتّفق على التشخيص والكلّ يدرك الحلول، ولكن من يملك الشجاعة لتطبيقها وترجمتها إلى إجراءات فعليّة ملموسة ومحسوسة؟
إنّ أوّل الحلول تكمن في مراجعة قوانين العمل الفلاحي وتأطير مهنة ناقلي العاملات الفلاحيات وإنشاء صندوق تعويض الضحايا وتفعيل التعاونيات النسائية وإنشاء قاعدة بيانات وطنية للعاملات وإدماج النساء الريفيات في السياسات العمومية. إنّ هذا ليس ترفا ولا منّة من أحد، بل هو أولوية سياسية قصوى وحقّ كونيّ فضلا عن أنّه حقّ مواطنيّ. وليتذكّر كلّ مسؤول أنّ خلف كل سلة تين وكل باقة إكليل تُباع على الطرقات هناك قصة امرأة كادحة ومفعمة بالشجاعة، وأذكر قصّة تلك المرأة من جهة الكاف التي قالت لي، وعيناها تنبضان عزما:
"هدفنا ليس البقاء على قيد الحياة فقط، نريد أن نعيش، ونريد لأبنائنا أن يعيشوا في واقع أفضل من واقعنا."
هاتان الكلمتان لخّصتا واقعا مريرا كأفضل ما يكون، وينبغي على السلطة السياسية ان تتّخذ منهما بوصلة تقتدي بها وتقطع بهما الصمت المتواصل منذ عقود.
لا ينبغي أن يكون يوم 7 ماي 2025 يوماً عاديّا، لابدّ أن يكون أوّل خطوة في إتجاه إرجاع الحقّ لأهله وتحقيق العدالة والكرامة المضمونتان بكلّ النصوص، دستورية كانت او مواثيق دولية. “إن هذه الشريحة من النساء تُسقِط خطاب نسوية الدولة، إذ إن الطرح الليبرالي لحقوق النساء يتجاهل جانب المساواة الاجتماعية

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115