الثورة التونسية وذكرى تعليق عقارب الساعة

عبد العزيز لبيب / جامعة تونس المنار
من معاني الثورة التونسية
في يوم 17 ديسمبر 2010، أقدم الشاب البوعزيزي على الانتحار بحرق نفسه. كان، ككثيرين مثله،

بائع خضراوات على الرصيف ما دام سوق العمل النظامي لم يسعفه بعمل. وما كان لوضعه المهمش والعاجز أن يجرّه إلى حركته اليائسة لولا ما زاد الطينَ بلّةً من "إهانة" لكرامته أمام الجمهور بمصادرة البلدية لعربته وما حفّ بذلك من مشهدية — والعربة عنوانٌ من عناوين وجوده الاجتماعي وآخِرُ ما لديه في درجات القيم الدنيا — ولولا صدّ السلطة للباب في وجهه عندما أراد التظلم لديها. وكان ممكنا لما حدث في ذلك اليوم أن يُؤخذ مأخذ الحادثِ "المحلي" السّيئ والعابر الذي تخبو صورته بمرور الوقت، ومأخذ الفعلةِ الحاقدة المرتدة على النفس بالهدم الذاتي فيُنعت فاعلها بشتى نعوت الاستنقاص. ثم تعود الأمور إلى مجراها الاعتيادي. ولكن يحدث ما قد يغرس السكين في الجرح الغائر فيزيد في وخز الضمير الجمعي الذي كان قد بدأ يدفع بالناس إلى الاحتجاج. حدث ذلك بزيارة الرئيس بن علي للضحية في مستشفى الحروق البليغة. كان المشهد في التلفزيون سرياليا. وكان للمشاهد أن يتساءل إن لم يزل في الضحية نبض حياة. انكشف نفاق السلطة العليا ورياؤها في آن واحد، أي التظاهر بما ليس باطنا من جهة (النفاق)، وطلب الاعتراف بجميل الزيارة من جهة ثانية (الرياء)، فبان، بجلاء مثير للجمهور العريض، ارتخاء قبضة السلطان. عندها انتفض الضمير الجمعي. وعندها أيضا بدأ مجرى الحياة الاعتيادي يتباطأ إلى أن توقفت عقارب الساعة هذه المرة. وتعليق حركة الزمان هو أحد معاني الثورة إن لم يكن الأكثر قيمة في جميع الثورات الكبيرة، ومنها الثورة التونسية.
ولذا فإنّا نحيي ذكرى ذلك اليوم الذي علّق تاريخيّة الاضطهاد ولو للحظات معدودات. طُروء فجوة صغيرة في الزمان إنما هو يحمل أملا خفيّا لأصحاب الحق ولطالبي العدالة "المهزومين" بالتعريف، فالفجوة تحول اللحظة الصغيرة إلى أبدية، إلى خلود. لكن توقف العقارب سيأتي بَعْدِيًّا. فردود الفعل الاحتجاجية وتسلسل الأحداث وآثارها هي التي ستحول "الانتحار" إلى "شهادة"، وتحول مرتكب الفعلة الشنعاء إلى "بطل" محلي، فوطني، فعربي، فجنوب عالمي. لولا النتائج البعيدة لما كانت الأسباب أسبابا أولى. فعظمة 17 ديسمبر إنما هي بآثاره أو بآياته، ومنها 14 جانفي وما تلاه. من دون الأول ما كان للثاني أن يأتي على نحو ما أتى. ولولا الثاني لمكث الأول حدثا عبثيا وأعمى، أي بلا دلالة. 14 جانفي هو الذي أكسب 17 ديسمبر معناه حتى وإن أصبح معنىً مبتورا من بُعده الاجتماعي الأصلي عندما اختزلته النخبةُ في بعد حقوقي وتشريعي سمّته "انتقالا ديمقراطيا"، فصفق له الكونغرس الأمريكي ونال منه "الرباعيّ" جائزة نوبل. وهذا ما يعطي حجة على أن 14 جانفي وما تلاه التحاف على "اجتماعية" 17 ديسمبر. والآن ماذا بقي من الثورة؟ بقي معناها الدفين في قلوب الأجيال، بل وفي اللّاوعيهم الجمعي؛ وبقيت صورتها نجما هاديا يتلألأ ولو من بعيد. ما من ثورة كبيرة وحققت "أهدافها" في وقتها. لكن آثارها المتناقضة تتسرب إلى الكيان وتفعل فعلها على المدي البعيد. وهذا ليس بالأمر الهين. لكن ذاكرة بعض الناس قصيرة، فالذاكرة ليست واحدة عند جمعيهم لأن مواقفهم ليست واحدة، ومصالحهم ونفسياتهم ليست واحدة، وحركة عقارب الساعة ليست واحدة أمام أذهانهم. لكي نفهم الثورة علينا التسلح بمفهوم الجُزَيْء عند غرامشي، ويعني التطور البطيء وغير الملحوظ الذي يعقب أحوالا كبرى ويهيئ أيضا لتحولات أكبر. إن آثار ذلك الفالق (كَتاكْليزم) في تونس ستدوم عقودا في المنطقة العربية مثلما نحن شاهدوه اليوم.
النخب والجموع
أكثر تاريخ تونس — منذ بضعة قرون — تاريخ نخب على اختلاف أصنافها، وطبائعها، ومشاربها، ومراتبها. والملاحظ أنها غالبا ما كانت في واد، و"الشعب" في آخر. ولمُسَمَّى "الشعب" تسميات أخرى عدة: رعايا، جماهير، طبقات شعبية، "مواطنين بسطاء"، جموع، الخ... بحسب الظرف التاريخي الاجتماعي، والظرف السياسي الثقافي أيضا. وأيا كانت التسمية، فدائما ما كانت هنالك هوة فاصلة بين النخب والشعب. أما على صعيد الفكر تحديدا، فلم يوجد قط مثقف سياسي عضوي بأتم معنى الكلمة مهما تخيله وتوهمه بعضنا، فلم يجاوز حدود الذهن إلى الوجود العيني، اللهم أن يكون العضوي مثقفا تقليديا (زيتونيا مثلا) أو ديماغوجيا (كما في الحركة الوطنية) أو نقابيا (المراتب المناضلة والقريبة من العمل القاعدي). فمن قَبْل كان كل شيء يجري تقريبا وكأنّه من "فوق" أو من "الخارج" مكرسا علاقة الاستتباع (سِيبالْتَرْنْ) بين من هم "فوق" ومن هم "تحت"، من هم في المركز ومن هم في الهوامش إنْ اجتماعيا أو جغرافيا أو الاثنين معا.
وجاءت المناسبة الفريدة النادرة لسد الهوة بين النخب والجموع بحَدَثان ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي. ولكن "في الصيف ضيّعتِ اللبن" كما يقول مثل قديم جميل، فلم تتعرف الجموع على نفسها في النخب، ولم تتعرف النخب على نفسها في الجموع أثناء الاحتجاجات والاعتصامات. فلقد بدا كل طرف وكأنه غريب في عين مقابله.
فأما النخب فكانت تريد أن تصوّر لنفسها أن التحولات تجري على هواها وبمشيئتها. ولكن واقع الأمر كشف بمرارة عن أن أكثر النخب إنما كانت تنشد الحريات والديمقراطية لنفسها، لكسب موضع تحت "شمس السلطان" وبالقرب من وسادته، فهالها أن ترى الجموع أثناء الثورة تنخرط بوعي أو من غير وعي في عملية التحول الديمقراطي الفعلي. ولم يتخلف "اليسار" نفسه عن الوقوف هذا الموقف؛ و"يسارنا" هو بالأساس من طبيعة "سياسية ثقافية"، مع أنّ له تقليد تاريخي صار عريقا في بلادنا. فهو لم يرَ في الجموع "يسارا اجتماعيا" فعليا وبامتياز، إذا جاز لي استخدام مصطلح اليسار في هذا المقام. كما أن جملة النخب هالها بعد ذلك أن يلعب الجانب الشكلي الإجرائي للديمقراطية (منذ انتخابات 2011) دورا غير متوقع في وصول الخصوم الإيديولوجيين إلى السلطة، فصارت تنظر إلى المبدأ الديمقراطي نفسه بعين الريبة، إن لم يكن بعين المعاداة من قبل بعضهم. أغلب نخبة اليسار السياسي انتقلت إلى مواقع ليبرالية وقد طالتها العدوى من اليسار الأوروبي الكلاسيكي الذي بات يعيش من وهم التمييز بين "ليبرالية اقتصادية" مذمومة و"ليبرالية ثقافية" محمودة! على هذا النحو، رسمت بعض الصفوف اليسارية التونسية (وليس كلها بالطبع) "خط التباين" الشهير على أرضية إيديولوجية وثقافية صِرفة، لا على أرضية اجتماعية، معيارها الأول هو "البنية الفوقية" لا "البنية التحتية" إذا سلّمنا بهذين المصطلحيْن المتجاوَزَيْن، وسلّمنا بالتمييز الحاد والتبسيطي بينهما. كتب اليساريون الكثير في مفهوم "الكتلة التاريخية". وعندما صار تفعيلها التاريخي ممكنا، لم يفعلوا شيئا البتة، بل لم يحققوها حتى بين أنفسهم. كان من الممكن أن يكونوا كل شيء، فعادوا لاشيء. فماذا فعلوا؟ ساهموا في إعادة عقارب الساعة إلى حركتها الاعتيادية الرتيبة.
وأما الجموع فما لبثت أن عادت من حيث أتت وكأنّ شأن السلطة السياسية لا يعنيها بعد الفَوَران الاجتماعي الثوري "السالب". وكان يمكنه أن يكون موجبا من نواح أخرى. ولكن تلك النواحي تم سدها أو التضليل عنها. فالخيبة لدى الجموع تكون أكبر ما لم تكن الديمقراطية تعني تحسين حثيث، و"بالملموس"، لشروط العيش: من شغل، وتعليم، وصحة، ونقل عمومي، وخدمات إدارية، وتجهيزات وبنى تحتية، وأمان. ويمكنها أن تتمهل وأن تُمهل متى كان حسها الجمعي على يقين من أن الطريق، مهما طالت، تقود إلى المنشود، وهو العيش الكريم الذي لا يعني بالضرورة الرفاه على معناه الدارج في البلدان الغربية الغنية. إنها ترى في الشغل، مثلا وبالأساس، التعبير الأوفى عن الديمقراطية. الشغل الوافر يوفر الثقة في النفس، وتاليا ثقة المحكوم في الحاكم. وعامة الناس محقون في ذلك. وعندما تيقنت الفئات الشعبية من أن "السياسة"، كما تشاهدها في خطابات وممارسات النخب القائدة، ليست إلا تدبير السياسة نفسها، أي صراعا حول التعريفات (الدستورية، أو الإجراءات الانتخابية، مثلا!) وحول الهويات الحضارية والثقافية وحتى الإثْنولسانية (الإسلام مثلا!) أو حول السلطة إنْ بطرق كسبها أو بطرق حفظها، وليس تدبير الشؤون العامة للمواطنين والتخطيط للنهوض بشروط العيش المشتركة، وفي مقدمتها المسألة الاجتماعية، تبرّمت بالسياسة وبأهلها. إن تلك الصراعات لها قيمتها ولا يمكن التقليل من قيمتها. ولكن اختزال الشأن العام في تلك الصراعات السياسويّة أضر كثيرا مآل المسار الثوري. وإن أتحدث عن المطلب البعيد (المآل الثوري) فليس لأني أتوهم تحقيقه، وإنما لأنه شرط تحقيق الحد الأدنى (العدالة الاجتماعية وما تقتضيه من تشاركية أيا كان اسمها، ديمقراطية أو ما شابه ذلك). لا يمكن، لضيق المجال هنا، استعراض حلقات ذلك المسار الذي أمكن خلاله للثورة المضادة أن تشتغل بدهاء كبير وبتدرج تكتيكي رصين وموزون (تماما مثلما كانت تعمل الكتائب الرومانية القديمة)، منذ السنوات الأولى بعد الثورة، لتزيد في ارتباك الفئات الاجتماعية الدنيا وحتى المتوسطة، وفي بث الحنين إلى عهد ما قبل 17 ديسمبر 2010.
. ويا للمفارقة المدهشة! ففي تلك اللحظة التي عادت فيها عقارب الساعة إلى حركتها، ولأول مرة، يُصادف رأيُ النخبة رأيَ الجموع الشعبية فيتفقان، بالسلب، على تفاهة الديمقراطية وعلى مخاطرها حتى وإنْ اختلف الطرفان على المدخل إلى نبذ الديمقراطية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115