و تشير هذه الاضطرابات والأزمات المتعددة الى نهاية عالم الامس الذي ارتبط بالمشروع الديمقراطي والعولمة الرأسمالية كما تشكل هذه الفترة مرحلة مخاض كبرى لميلاد عالم جديد ومشروع عالمي جديد .
ويشمل هذا المخاض كل مجالات الحياة السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية وتحمل هذه المرحلة الكثير من المخاوف والقلق باعتبار هيمنة القوى المتطرفة والشعبوية على المجال العام والضعف الكبير للقوى الديمقراطية والاجتماعية (وتدعم ذلك نتائج الانتخابات الاخيرة في اعتى الديمقراطيات الاوروبية والأمريكية وفي العديد من بلدان الجنوب) مما يثير مخاوف كبرى من العالم الاتي ومدى قدرة الدول والمؤسسات على حماية المجتمعات من المخاطر والصراعات والحروب
ورغم صعوبة التكهن بملامح العالم الذي سيبرز من هذا المخاض في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يمكننا الحديث ودراسة جملة من السيناريوهات المستقبلية التي بدأت تتشكل بصعوبة كثيرة ودون ان يفرض اي منها نفسه كمشروع جامع لعقد اجتماعي قادم .
سنتناول بالنقاش في هذا المقال بعض السيناريوهات التي بدأت تعمل على المستوى الاقتصاد العالمي من خلال السياسات العمومية للدول وخيارات المؤسسات اللكبرى وذلك من خلال حشد وتعبئة منظمات المجتمع المدني .
وقبل الخوض في السيناريوهات المستقبلية للاقتصاد العالمي سنحاول الوقوف على اهم التشكيلات التي عرفها الاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
تشكيلات الاقتصاد العالمي بين 1950 و2020
عرف الاقتصاد العالمي خلال السبعين سنة الممتدة من 1950 الى 2020 ثلاثة انماط تشكيلات كبرى .وقد سمحت هذه التنظيمات للاقتصاد بالعيش في فترة استقرار ورخاء اقتصادي كبير لأغلب البلدان والشعوب التي خرجت اجزاء كبيرة منها من الفقر المدقع والجوع والمرض .
إلا ان نفس الفترة لم تكن خالية من محاولات الهيمنة من البلدان المتقدمة على البلدان النامية خلال مرحلة الاستعمار المباشر والتي تواصلت الى مرحلة بناء الدولة الوطنية اثر الاستقلال في بعض البلدان .
وخلال هذه المرحلة التاريخية الطويلة يمكننا الحديث عن ثلاثة تشكيلات كبرى للاقتصاد العالمي .
اما النمط الاول فهو التشكيلة التي هيمنت على الاقتصاد العالمي اثر الحرب العالمية الثانية ليتواصل ذلك الى بداية سبعينات القرن الماضي . وقد ارتكز الاقتصاد في هذه المرحلة على نظام الدولة الوطنية التي شكلت الاطار العام للدورة الاقتصادية من انتاج وتوزيع واستثمار وتمويل .وسيكون الاقتصاد العالمي في هذه الفترة مجموع العلاقات في جميع الميادين بين الاقتصادات الوطنية .وعملت المؤسسات الدولية التي تم بعثها اثر اتفاقات بريتون وودز سنة 1944 الى حماية وتدعيم التوازنات الكبرى للاقتصاد العالمي 1.0
اما النمط الثاني او ما يمكن ان نسميه العولمة 2.0 فقد ظهر في بداية سبعينات القرن الماضي ليتواصل الى نهاية ثمانينات القرن الماضي . وستشكل هذه المرحلة محاولة لتجاوز اطار الدولة الوطنية من خلال التطور الكبير للتجارة الخارجية وتنامي الاستثمار الخارجي .إلا ان هذا الاستثمار سيتجه الى الاسواق الكبرى لتعويض الانتاج المحلي بالتوريد او الاستفادة من التكلفة الضعيفة لسوق العمل .
وسيترك هذا النظام المجال لنظام جديد يمكن ان نسميه بالعولمة 2.0 والذي سيبدأ من بداية تسعينات القرن الماضي الى سنوات 2020.وسيتميز هذا النظام بثلاثة تطورات مهمة، أولها العولمة المتسارعة للأسواق المالية والبنوك وتوزيع جديد للاستثمار الخارجي وأسواق العمل حسب سلاسل انتاج عالمية وتطور سريع للتجارة العالمية إلا ان الازمات المتواترة وخاصة جائحة الكوفيد ستضع حدا لهذا النظام العالمي وتفتح فترة بحث ومخاض عن تنظيم جديد للاقتصاد العالمي .
أزمة النظام الاقتصادي العالمي وسيناريوهات المستقبل
رغم الازمات التي يعيشها الاقتصاد العالمي والاضطرابات وعدم الاستقرار انطلقت عملية البحث عن سيناريوهات بديلة لإعادة بناء النظام العالمي .ولئن كان من السابق لأوانه الحديث عن نظام اقتصادي جديد الا انه يمكننا نقاش السمات الكبرى لثلاثة سيناريوهات كبرى .
- السيناريو الاول هو اعاة انتاج القديم او status quo رغم التحديات والأزمات التي عرفها الاقتصاد العالمي في السنوات الاخيرة فإن احد السيناريوهات المستقبلية الممكنة هو مواصلة اهم التوجهات الكبرى للعولمة والتي سيصعب تغييرها . وفي هذا السيناريو ستسعى البلدان الرأسمالية الى جانب الشركات الكبرى الى تجاوز الصعوبات الحالية وإعادة انتاج العولمة 2.0 مع المحافظة على مواقعها المهيمنة.
- السيناريو الثاني هو تسريع الانشطار (Fragmentation) : وهذا السيناريو هو تأبيد للازمات السابقة امام عدم قدرة النظام العالمي على دفع النمو والاستقرار وسيتصاعد سيناريو الانشطار والانقسام الذي يعيشه العالم منذ الحرب في اوكرانيا لتصبح العوامل الجيوستراتيجية مهيمنة في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدان . وقد شكلت الحرب التجارية المفتوحة بين الولايات المتحدة الامريكية والصين وفرضية التفكك (decouphing) بين البلدين لتغذية هذا السيناريو الذي سيقود الى مزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار .
- السيناريو الثالث هو سيناريو ما بعد العولمة: ستسعى اغلب البلدان من خلال هذا السيناريو الى الخروج من العولمة وإعادة بناء استقلاليتها الاقتصادية من خلال سياسات صناعية جديدة هدفها اعادة بناء نسيجها الصناعي والقطاعات الاستراتيجية في اطار حدود الدولة الوطنية .
وقد انطلقت هذه السياسات الصناعية الجديدة في عديد الدول ومن ضمنها الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا وبلدان الجنوب مثل الصين والهند وغيرها .
ويمكن ان يقود هذا السيناريو الى اعادة بناء المؤسسات الدولية على مبدإ تعدد القطبية لإدخال شيء من التوازن والعدالة في النظام العالمي.
يعيش العالم اليوم فترة مخاض كبرى ومخيفة في نفس الوقت حيث تعتمل سيناريوهات متعددة في رحم الازمات التي نعيشها. وتكمن مسؤوليتنا في الضغط كي يتجه العالم نحو الخيار الذي يضمن لنا تجربة انسانية وحضارية قوامها التحرر والديمقراطية والتعدد .