اصلاح النظام الجبائي العالمي: المعركة القادمة لإصلاح النظام العالمي

انطلقت البارحة في بلادنا الندوة الافريقية حول محاربة تهريب الاموال

بإشراف السيد نبيل عمار وزير الخارجية التونسي والسيد البرت موشانغا مفوض الاتحاد الافريقي للتنمية والتجارة .وتشكل هذه الندوة اولى الفعاليات التي تنظمها مفوضية الاتحاد الافريقي قبل الاجتماع السنوي لوزراء المالية والتنمية في تونس .

وقد اهتمت هذه الندوة بمسألة مهمة هي في اولويات المفاوضات الدولية من اجل القيام بإصلاحات كبيرة للنظام المالي العالمي .

وتندرج هذه المفاوضات في اطار رياح الاصلاح والتحولات التي يعيشها العالم اليوم. وفي رأينا يمر العالم اليوم بمفارقة كبرى وجوهرية. من جهة كان لتحرير مخزون العنف في العلاقات الدولية من اوكرانيا والحرب المدمرة في غزة تأثير كبير على تزايد التوتر و المخاطر الكبرى التي قد تضع العالم على حافة مواجهة كبرى. في نفس الوقت كان التوتر والحروب التي يعيشها العالم وراء هبة كبيرة من عديد البلدان وخاصة من قبل بلدان الجنوب التي عرفت تعبئة كبيرة في السنتين الاخيرتين لإيقاف هذا الانهيار وتجنب طريق للهاوية التي دخل فيها العالم.

وقد اكدت بلدان الجنوب الكبير ان الخروج من هذه الازمات يمر عبر اصلاح جذري للنظام العالمي لإعطائه شحنة من العدالة والتوازن.وفي هذا الاطار تندرج المفاوضات الكبرى التي تعيشها المنظمات الدولية من اجل اصلاح جذري وحقيقي للنظام الجبائي العالمي لإيقاف مرض التهرب الذي ينخر البلدان النامية ويؤثر على توازناتها المالية الكبرى.

ويعتبر ادراج هذه المسالة على طاولة المفاوضات تحولا كبيرا وتطورا مهما باعتبار ان البلدان المتقدمة رفضت الخوض في هذه المسالة واعترضت على كل مطالب الاصلاح والتغيير التي قدمتها بلدان الجنوب لأكثر من نصف قرن .

تاريخ محاولات إصلاح النظام الجبائي العالمي

ليست محاولات اصلاح النظام الجبائي العالمي وليدة اللحظة بل تعود الى السنوات الاولى لاستقلال بلدان الجنوب منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، إلا ان كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولقيت الرفض خاصة من طرف البلدان المتقدمة التي امتنعت عن فتح الصندوق الاسود لتحويلات الشركات الكبرى من بلدان الجنوب.

وكان الاقتصادي المصري الكبير والصديق د.سمير أمين اول من طرح هذه المسألة في كتابه «التراكم على الصعيد العالمي» الصادر سنة 1957 والذي عرف نجاحا كبيرا وأصبح مانيفاستو بلدان العالم الثالث من اجل اصلاح النظام الاقتصادي العالمي .

وقد أشار سمير امين الى ان النظام الجبائي العالمي هو احد اليات تحويل القيمة من بلدان الجنوب الى بلدان المركز في اطار النمو اللامتكافئ الذي ميز النظام العالمي اثر استقلال هذه البلدان والذي ساهم في تثبيت علاقات التبعية والهيمنة رغم حصول هذه البلدان على استقلالها ودخولها في مرحلة بناء الدولة الوطنية .

وكان سمير امين اول من اشار الى مسألة «سعر التحويلات» او (les prix des transferts) داخل الشركات المتعددة الجنسيات والتي تلعب دورا كبيرا في تحويل القيمة الى بلدان المركز .ويعرف الاقتصاديون «اسعار التحويلات» على انها الاسعار الداخلية التي تطبقها الشركات المتعددة الجنسية في سير وتدفق المنتوجات بين فروع الشركة من بلد الى اخر بطريقة محاسبية تمكن من ظهور الارباح في بلد المنشإ او في احدى الجنات الضريبية. وتكمن هذه الطريقة في تهريب اموال الضريبة على الارباح التي تحققها هذه الشركات في البلدان النامية .

وقد شكلت هذه المسألة احدى الاهتمامات الرئيسية التي حاولت القيام بكل ما في وسعها من قوة للمطالبة بإصلاح النظام الجبائي العالمي وايقاف النزيف الكبير الذي يتسبب فيه وعدم فتح الباب واسعا للتهرب الجبائي وخروج الاموال بطريقة قانونية من بلدان الجنوب الى بلدان المركز.

وقد عرفت مطالب بلدان الجنوب تطورا كبيرا في هذا المجال عندما جعلت بلدان عدم الانحياز في القمة المنعقدة بالجزائر سنة 1973 اصلاح النظام الجبائي العالمي احد ركائز مشروع النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

ولم يتوقف هذا التهرب على الاموال التي يقع تحويلها بطريقة محاسبية الى بلدان الشمال من طرف الشركات المتعددة الجنسيات بل شمل حسب العديد من الاقتصاديين كل الحوافز الجبائية التي قدمتها العديد من بلدان الجنوب لتشجيع الاستثمارات الاجنبية والشركات الكبرى للانتصاب عندها للتصدير .وقد تطورت هذه السياسات في اطار استراتيجيات التنمية الموجهة للتصدير والتي عرفت تطورا كبيرا في البلدان النامية منذ سبعينات القرن الماضي الى يومنا هذا في بعض بلدان الجنوب .

وقد عرف هذا النظام الجبائي العالمي الكثير من النقد من منظمات المجتمع المدني وحتى من بعض البلدان النامية وبعض المؤسسات الاممية .إلا انه بقي محافظا على هيمنته ورفضت البلدان المتقدمة الانصياع لمطالب الاصلاح وفتح الصندوق الاسود للجباية العالمية، لكن هذا الموقف العنيد والرافض لمطالب الاصلاح سيشهد انعطافا بعد الازمة المالية لسنتي 2008 و2009.

أزمات النظام العالمي وفتح نافذة الاصلاح

كانت الازمة المالية لسنتي 2008 و2009 وراء تحول كبير في مواقف البلدان المتقدمة في المجال الجبائي. فهاته الازمة والتي كادت ان تقود النظام العالمي للإفلاس كانت وراء تطور كبير للحاجيات المالية لهذه البلدان من اجل انقاذ البنوك الكبرى والمؤسسات المالية وحمايتها من الافلاس .واتجهت هذه البلدان الى الجباية خاصة على الشركات الكبرى من اجل توفير الامكانيات المالية للدول الكبرى للخروج من هذه الازمات.

ومنذ هذه الازمة ستصبح مسالة وضع حد للتهرب الجبائي وخاصة بالنسبة للشركات الكبرى ولجوئها الى الملاذات الجبائية هاجسا كبيرا عند البلدان المتقدمة في اولويات مجموعة السبع الكبار .

وستطلب مجموعة السبع الكبار من منطقة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) التي يوجد مقرها في باريس الانكباب على هذه المسألة واعداد مشروع اصلاح جدي للنظام الجبائي العالمي لإيقاف التهرب وتمكين البلدان من امكانيات مالية كبيرة تستغلها في النمو الاقتصادي والاستثمار .

وقد انطلقت هذه المنظمة في اعداد حزمة من المبادئ والمقترحات لاصطلاح النظام العالمي. ويمكن الاشارة الى ثلاثة مبادئ اساسية في هذا المجال، يهم اول هذه المبادئ وضع حد لتحويل القيمة الذي تستعمله البلدان الكبرى من خلال اجبارها على دفع الضرائب في بلد الانتاج .اما المبدأ الثاني فيسعى الى فرض شفافية كبرى على عمليات الشركات الكبرى في عملياتها على المستوى العالمي .وينص المبدأ الثالث على تدعيم التعاون بين البلدان من خلال تداول المعطيات الجبائية لوضع حد للتهرب.

في نفس الوقت بدأت البلدان النامية منذ بداية الالفية في الحد من الحوافز الجبائية التي تقدمها للاستثمارات الاجنبية لوضع حد للكثير من التجاوزات في هذا المجال.

بعد عقود من الرفض والتعنت فتحت البلدان المتقدمة الافاق للمفاوضات لاصطلاح النظام الجبائي العالمي .وستعلب البلدان الافريقية دورا محوريا في هذا المسار في السنوات الاخيرة .

افريقيا والدور المحوري لإصطلاح النظام الجبائي العالمي

لقد لعبت افريقيا دورا اساسيا ومحوريا في هذه المفاوضات من اجل اصلاح النظام الجبائي العالمي .ويعود هذا الدور والأهمية التي تعطيها القارة الافريقية الى حجم الخسائر التي تتكبدها جراء هذا النظام فمعدل الخسارة السنوية لكل البلدان الافريقية من التهرب الضريبي وصلت حسب اخر الدراسات الى قرابة 90 مليار دولار بين سنتي 2013 و2015 ما يمثل قرابة %4 من الناتج القومي الخام للقارة .وتمثل هذه الخسارة مجموع الاستثمارات الخارجية والإعانات التي تتحصل عليها القارة سنويا .

وتشير الدراسات الى ان الخسائر الجبائية للقارة والناتجة على سياسيات التحفيز الجبائي تصل الى قرابة 220 مليار دولار في نفس هذه الفترة.

تمثل هذه الخسائر الكبيرة حافزا لدفع البلدان الافريقية الى لعب دور كبير في هذه المفاوضات. وقد لعبت هذه الدول دورا كبيرا في عدم الاكتفاء بالمفاوضات داخل منظمة التعاون والتنمية العامة (OCDE) وفتح مسار تفاوضي جديد داخل اروقة الامم المتحدة لضمان نتائج اكثر عدلا وانفتاحا على مطالب بلدان الجنوب .

اثر تعبئة كبيرة ومفاوضات عسيرة نجحت البلدان الافريقية في الحصول على موافقة 125 دولة في الجمعية العامة في نوفمبر 2023 بالموافقة على وضع مسالة اصلاح النظام الجبائي العالمي على جدول اعماله وتكوين لجنة لإعداد الخطوط العريضة لاتفاق عالمي حول الجباية ومحاربة التهرب الضريبي .

وقد شكلت المفاوضات على اصلاح النظام الضريبي تطورا مهما في العلاقات الدولية وبداية لمسار اشمل لاصلاح النظام الاقتصادي العالمي والذي طالبت به بلدان الجنوب الا ان هذا المسار والمفاوضات لن تكون سهلة وستتطلب الكثير من الجهد والعمل التضامني بين بلدان الجنوب للوصول الى نتائج تمكنها من الصمود امام ازمات النظام العالمي وهزاته

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115