الانتخابات الأوروبية وفي العالـم .. بين نتائج الصندوق وعجز السياسات

أثارت نتائج الانتخابات الأوروبية التي تم الاعلان عنها مساء الاحد الفارط الكثير من الجدل والنقاش في الفضاء الاوروبي

وفي العالم حيث اعطت تقدما واضحا لأقصى اليمين في أغلب البلدان الاوربية .وقد كانت لهذه النتائج انعكاسات سياسية كبيرة في فرنسا حيث اعلن الرئيس الفرنسي مباشرة اثر الاعلان على النتائج عن حل البرلمان والدعوة الى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها يأمل من ورائها في تدعيم موقعه السياسي .واعتبر الكثيرون ان في هذا القرار مغامرة قد تمكن اقصى اليمين من الانتصار وبالتالي قيادة الحكومة الفرنسية لأول مرة في التاريخ .

اهتممنا بالانتخابات الاوروبية بصفة كبيرة في بلداننا نظرا لقربها وانعكاساتها المباشرة علينا ونسينا انها تقع في سنة انتخابية في الكثير من البلدان في مختلف جهات العالم . وستعرف هذه السنة انتخابات في عديد البلدان المؤثرة على السياسة الدولية وعلى الاقتصاد العالمي .ومن بين هذه البلدان نذكر روسيا التي عرفت انتخابات رئاسية بين 15 و17 مارس شهدت انتصار فلاديمير بوتين .كما يمكن ان نشير الى انتخابات جنوب افريقيا يوم 29 ماي والتي ادت الى التراجع الكبير للحزب الحاكم «المؤتمر الوطني الافريقي» والذي حكم البلاد منذ خروج الزعيم نلسن مانديلا من السجن. وقد فقد هذا الحزب الاغلبية المطلقة التي تمكنه من تكوين الحكومة وبالتالي دخل منذ الاعلان على النتائج في مفاوضات لتكوين حكومة ائتلافية مع احزاب اخرى .

ثم جاءت الانتخابات الهندية التي تم الاعلان على نتائجها يوم 1 جوان والتي افضت الى التراجع الكبير المفاجئ للحزب الحاكم ورئيس الحكومة نارندرا مودي الذي فقد الاغلبية مما دفعه للدخول في مفاوضات شاقة مع عديد الاحزاب الصغيرة لتكوين اغلبية .وتمكن في المقابل حزب المؤتمر المعارض من تحقيق تقدم كبير قد يمكن من تكوين اغلبية تمكنه من هزم غريمه المحافظ والشعبوي الذي اعتقد اغلب الملاحظين ان هزيمته ستكون صعبة المنال .ثم جاءت انتخابات المكسيك في 2 جوان والتي مكنت لأول مرة امرأة وهي اليسارية كلوديا سينبون من الوصول الى الرئاسة.

الى جانب هذه الانتخابات التي وقعت في الاشهر الاخيرة يمكن اضافة عديد المواعيد الانتخابية القادمة ولعل اهمها الانتخابات البريطانية يوم 4 جويلية والانتخابات الامريكية والتي ستؤثر نتائجها دون ادنى شك على التوازنات الكبرى في العالم .

وفي خضم هذا الحراك الانتخابي الذي يعيش على وقعه العالم خلال هذه السنة لابد من اضافة الانتخابات الرئاسية في السينغال والتي حتى وإن لن يكون لها انعكاس على التوازنات الكبرى في العالم الا ان لها تأثيرات كبيرة على الخارطة السياسية الداخلية والإقليمية .فلأول مرة فشل كل مرشحي النخبة والأحزاب السياسية الكلاسيكية في الوصول الى كرسي الرئاسة مقابل فوز مرشح شاب من خارج النظام التقليدي وهو باسيرو ديوماي فاي .

تشكل السنة الحالية سنة انتخابية بامتياز حيث عرفت عديد البلدان وخاصة منها البلدان المؤثرة في الاختيارات والتوازنات السياسية الكبرى محطات كبرى قد يكون لها تأثير على الاوضاع العالمية .وبطيعة الحال من السابق لأوانه بناء فرضيات والقيام باستنتاجات حول الوضع السياسي العالمي من خلال نتائج هذه الانتخابات باعتبار ان هذا المسار الانتخابي لازال متواصلا حيث ستقع الانتخابات الامريكية في بداية شهر نوفمبر.

ويمكننا الحديث عن بعض الاستنتاجات الاولية لهذه السنة الانتخابية والتي تعطينا فكرة على المسار السياسي العالمي وتطور ديناميكية وحركيته. في رأيي يمكننا اليوم الحديث عن نتيجتين اوليين.النتيجة الاولى وهي ان اغلب الانتخابات التي تمت في ظروف ديمقراطية ادت الى ما يسميه خبراء التحاليل الانتخابية الى التصويت العقابي (vote sanction) الذي ادى الى هزيمة الاحزاب التي تتولى السلطة او الى تراجعها الكبير.

اما النتيجة الثانية فهي ان التغيير الانتخابي حصل في السنة الحالية حتى كذلك في السنوات التي سبقتها ولم يؤد الى تغيير حقيقي في السياسات والاختيارات الكبرى التي حافظت على توجهاتها الكبرى المحافظة والنيوليبرالية ضاربة عرض الحائط بشعارات التغيير التي رفعتها اغلب هذه الاحزاب خلال حملاتها الانتخابية.

في أسباب التصويت العقابي

تختلف اسباب هذا التصويت العقابي ورفض التحالفات السياسية القائمة من بلد الى اخر ومن جهة الى اخرى حول العالم . ويمكننا الاشارة الى ثلاثة عوامل اساسية ساهمت في غضب جموع الناخبين وسعيهم الى عقاب الاحزاب القائمة.

يعود العامل الاول الى مسألة الهوية والخوف من الاخر واعتباره سبب العلة او مصدر المشاكل التي تعيشها البلدان .ويأخذ هذا الغضب شكل رفض المهاجر والغريب والمختلف عرقيا او دينيا .ويلعب هذا العامل دورا اسياسيا ومحوريا في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وقد شكل هذا العامل عنصرا ثابتا في الدعاية السياسية للأحزاب اليمينية خاصة المتطرفة منها في اغلب البلدان المتقدمة. وقد تزايد تأثير هذا العامل في الاختيارات الانتخابية في هذه البلدان في السنوات الاخيرة مع ارتفاع الهجرة لأسباب اقتصادية او جراء الحروب والنزاعات في العالم وسيصبح لهذا العامل تأثير كبير في المحطات الانتخابية بصفة خاصة في اوروبا وأمريكا.

اما العامل الثاني الذي يفسر هذا التصويت العقابي فيهم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وبصفة خاصة تزايد البطالة والتهميش الاجتماعي وتنامي الفوارق الاجتماعية نتيجة السياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود في اغلب بلدان العالم . وقد لعبت هذه العوامل دورا اساسيا في فقدان السلطات السياسية والحكومات لمشروعيتها لعدم قدرتها على وضع حد لهذه التطورات الاجتماعية رغم الوعود التي اخذتها على عاتقها خلال الحملات الانتخابية .ولئن اقتصر هذا الغضب الانتخابي على الفئات العمرية المتقدمة في السن الا انه شمل في السنوات الاخيرة الفئات الشبابية.فالمتابع اليوم للنتائج الانتخابية الاخيرة في اوروبا يلاحظ الانحياز الكبير للفئات الشبابية الى القوى اليمينية وخاصة المتطرفة منها .ويشكل هذا التطور تحولا نوعيا كبيرا في الاختيارات الانتخابية لهذه الفئات العمرية باعتبار انها شكلت في السابق وتاريخيا قاعدة مهمة ورافضة للتيارات اليمينية ووقفت في اغلب المحطات خزانا انتخابيا مهما للأحزاب اليسارية.

اما العامل الثالث والذي ساهم بصفة كبيرة في هذا التصويت الانتخابي فيعود الى جوانب اخلاقية عديدة أهمها المشاكل المتعددة التي عرفتها هذه المرحلة من التاريخ الطويل للنظام الرأسمالي والتي ادت الى تراجعه وانحساره اذ لم يتمكن الفكر الاقتصادي من ضبط واستنباط سياسات جديدة لبناء مرحلة رخاء وازدهار جديدة تعيد الثقة في النظام وتفسح المجال لبناء عقد اجتماعي جديد.

ويمكن لنا قراءة تطور النظام الاقتصادي والسياسات العمومية منذ الحرب العالمية الثانية من خلال تواتر مرحلتين مهمتين او فترتين من الرخاء والازدهار .وقد انطلقت الفترة الاولى او ما نسميه بمرحلة دولة الرفاه او Etat – providence منذ ثلاثينات القرن الماضي لتتدعم اثر الحرب العالمية الثانية وتتواصل الى بداية السبعينات .وقد لعبت الدولة دورا مركزيا في هذه المرحلة من حيث مساهمتها في بناء تجانس وتناسق الديناميكية الاقتصادية داخل حدود الدولة الوطنية .واعتمد النظام الفوردي (système fordiste) الذي شكل جوهر النظام الاقتصادي في هذه المرحلة على العلاقة المتينة بين تطور الانتاجية والترفيع في المقدرة الشرائية مما ساهم في ظهور مرحلة الرخاء التي عرفها العالم اثر نهاية الحرب العالمية وفترة ما يسمى بالعصر الذهبي للنظام الرأسمالي والاستهلاك (consommation de masse) وكان للسياسات العمومية التدخلية دور اساسي ومركزي في تنظيم هذه الديناميكية الاقتصادية والتحكم في توازناتها الكبرى لتفادي المطبات والأزمات .

وقد انتهت هذه المرحلة في بداية السبعينات مع تواتر الازمات السياسية الاقتصادية.وعرف العالم مرحلة رخاء جديدة مع صعود العولمة منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وستتدعم هذه المرحلة الجديدة من الرخاء في التسعينات من خلال سياسات عمومية واختيارات اقتصادية جديدة تقطع مع السياسات التدخلية للدولة والتي كانت سائدة في الفترة السابقة. ووقع ضبط السياسات العمومية داخل توافق نيوليبرالي عالمي جديد دعا الى فتحج الاقتصاد الوطني امام حرية التجارة وحركة راس المال وتراجع دور الدولة لفائدة السوق والتقليص من التدخل الاجتماعي للدولة وإعطاء حرية اكبر للقطاع الخاص في المجال الصناعي وخاصة منه المالي. وقد ساهم هذا التوافق النيوليبرالي المحافظ في بناء فترة رخاء جديدة استفادت منها فئات اجتماعية جديدة مرتبطة بالعولمة في البلدان المتقدمة وبلدان الجنوب والتي شهدت طفرة جديدة في النمو كانت وراء صعود العديد منها حتى انها اصحبت منافسا قويا للبلدان الرأسمالية التقليدية.

وكانت الازمات المتتالية منذ الازمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 مرورا بجائحة الكوفيد 19 والحروب والصراعات التي مر بها العالم وراء افول هذه المرحلة الثانية من الرخاء والرفاه.

أما المفارقة الكبرى والمعضلة التي يواجهها العالم منذ 2010 تكمن في تواصل السياسات النيوليبرالية المحافظة رغم نهاية وأفول مرحلة الرخاء التي ارتبطت بها .فقد عجز الاقتصاديون والمفكرون والأحزاب السياسية عن صياغة السياسات جديدة لرفع تحديات المرحلة الجديدة من ضعف النمو وتواصل التهميش الاجتماعي وتسريع انعكاسات الانحباس الحراري والأزمة المناخية. وحتى الاحزاب الشعبوية واليمينية الراديكالية التي اكدت على القطع مع الاختيارات والسياسات القديمة في حملاتها الانتخابية سرعان ما تراجعت عن وعودها لتنخرط في التوجهات الكبرى للتوافق النيوليبرالي المحافظ السائد منذ بداية التسعينات .وهذا العجز على استنباط سياسات جديدة جعل التغيير الانتخابي لا ينتج تغييرا وتحولا كبيرا في السياسات الكبرى والاختيارات مما سهم في تأبيد ازمة النظام الديمقراطي.

وقد بقيت محاولات تغيير السياسات لبناء مرحلة رفاه جديدة محدودة في بعض الشعارات العامة في المجالين الاجتماعي والمناخي دون توجه وروح لبناء عقد اجتماعي جديدة .

يعيش العالم مرحلة من عدم الاستقرار والغموض والترقب بل وحتى الخوف من القادم.وقد عبر الناخبون في البلدان الديمقراطية عن هذه الاوضاع من خلال اللجوء الى التصويت العقابي مما ساهم في عدم الاستقرار السياسي. وتتجاوز هذه الازمات المسارات الانتخابية لتطرح قضية اعمق تهم جوهر وكنه ازمة النظام الديمقراطي في العالم ومدى قدرته على بناء فترة رخاء جديدة من خلال استنباط وخلق سياسات عمومية جديدة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115