الاقتصاديات العربية: طرق الخروج من فخ المناعة والاستقرار (trappe de la résilience)

يشكل مفهوم المناعة (résilience) الاطار العام الذي يتم تداول القضايا الاقتصادية الكبرى في اطاره اليوم .

ويسعى الاقتصاديون والخبراء كما هو شأن المنظمات الدولية الى فهم قدرة الاقتصاديات على الصمود امام الصدمات الكبرى والمتتالية التي مر بها العالم منذ الازمة المالية الكبرى لسنوات 2008 و2009 .وقد اكدنا ان مفهوم المناعة لم يحظ الى حد اليوم بتعريف موحد في الخطاب والنقاش الاقتصادي. ورغم هذه الاختلافات فقد اشرنا الى ان هذا المفهوم يحمل جانبين مهمين: يهم الجانب الاول قدرة التوازنات الاقتصادية الكبرى على الصمود والوقوف امام الصدمات الخارجية والداخلية . اما الجانب الثاني فيخص النمو وقدرة الاقتصاديات على الانتعاش من جديد من خلال دفع آليات الاستثمار .

وقد مكننا هذا التمييز والتفرقة بين الجانبين من اقتراح مفهوم فخ المناعة او (trappe de la résilience) والذي وقعت فيه بعض الاقتصاديات ومن ضمنها الاقتصاديات العربية والذي نتج عن اعطاء الاولية في مواجهة الصدمات، سواء اكانت داخلية ام خارجية، الى التوزانات الكبرى على حساب النمو والانتعاش .

النزول الهادئ للاقتصاد العالمي والاقتصاديات العربية

عند تراجع جائحة الكوفيد 19 وجد الاقتصاد العالمي نفسه في مواجهة تحديين جديدين اثرا في السنتين الأخيرتين على ادائه .يهم التحدي الاول الدخول العنيف للسياسة، بصفة خاصة القضايا الاستراتيجية، في المجال الاقتصادي وانعكاساتها على هشاشة الاقتصاد العالمي .

ويهم التحدي الاول الحرب في اوكرانيا والتي بدأت مع الاجتياح الروسي في فيفري 2022. ولم تتوقف انعكاسات هذه الحرب على المسائل السياسية والاستقرار الامني للعالم بل تجاوزتها الى المجال الاقتصادي حيث تسببت في ارتفاع كبير لأسعار المواد الاولية، بصفة اسعار النفط والأسعار العالمية للمواد الغذائية وخاصة اسعار الحبوب ورغم تراجع حدة هذه الحرب الا ان انعكاساتها السياسية والاقتصادية لازالت تؤثر على استقرار العالم وتزيد من هشاشته .

اما الصراع الثاني والذي كانت له انعكاسات على الاقتصاد العالمي فيخص الحرب المدمرة التي تشنها اسرائيل على قطاع غزة ورغم تفادي توسيع رقعة الحرب على المستوى الاقليمي الا ان ذلك ساهم في تصاعد عدم الاستقرار والغموض والارتباك على المستوى العالمي .وقد ساهمت هذه الحرب في اختلال التجارة الدولية اثر الهجومات الحوثية على السفن العابرة للبحر الاحمر مما ساهم في ارتفاع اسعار النقل البحري.

اما التحدي الثاني الذي واجهه الاقتصاد العالمي فيهم العودة السريعة والقوية للتضخم العالمي في اغلب بلدان العالم منذ بداية 2022 .وقد ساهمت الحرب في اوكرانيا وارتفاع الاسعار العالمية للمواد الاولية بصفة كبيرة في هذا المنحى التضخمي من خلال التضخم المستورد. وكانت هذه التطورات وراء تغيير كبير في السياسات الاقتصادية وبصفة خاصة السياسات النقدية حيث قطعت البنوك المركزية مع السياسات التوسعية التي اتبعتها منذ الازمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 لتأخذ منحى متشددا من خلال الترفيع في نسب الفائدة . وكانت لهذا التغيير في السياسات النقدية انعكاسات على النمو في الاقتصاد العالمي .

لقد خلقت الحروب والتحديات الجيوستراتيجية الى جانب صعود التضخم حالة من الانتظار الحذر والتخوف من دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة من الركود التضخمي مما سيزيد من الغموض والبلبلة.إلا ان التوقعات السلبية لآفاق الاقتصاد العالمي في سنة 2023 والتي قامت بها اغلب المؤسسات الدولية ومراكز الاحصاء وقع تنفيذها حيث يتجه العالم الى النزول بهدوء من هذه المطبات والصدمات، ولئن بقي مستوى النمو العالمي لسنة 2023 ضعيفا الا انه وصل الى %3.2 وسيحافظ على نفس النمو في مستويات اضعف في البلدان الرأسمالية المتقدمة ولم يتجاوز %1.6 في السنة الفارطة وسيحافظ على نفس المستوى خلال السنتين القادمتين .كما كانت مستويات النمو اعلى في البلدان النامية حيث وصلت الى %4.3 سنة 2023 لترتفع الى %4.3 خلال السنتين القادمتين .

رغم التوترات الجيوسياسية وتشدد السياسات النقدية لمحاربة التضخم، برهن الاقتصاد العالمي على قدر كبير من المناعة والصمود امام الصدمات الاقتصادية .وتعتبر هذه المناعة على قدر كبير من الاهمية نظرا لرفض البنوك المركزية ادخال شيء من الليونة والمرونة على السياسات النقدية رغم تراجع التضخم.وقد عرفت الضغوطات التضخمية في نفس الوقت تراجعا كبيرا في السنة المنصرمة ليتواصل خلال السنتين القادمتين .ويعود هذا التراجع الى الهبوط الكبير في اسعار المواد الاولية وبصفة خاصة اسعار النفط والذي سيتواصل حسب اغلب التوقعات خلال السنتين القادمتين .

وقد اظهر الاقتصاد العالمي صلابة كبيرة في مواجهة الصدمات الكبرى إلا انه رغم هذه المناعة بقي مستوى النمو ضعيفا ومحدودا ويواجه تحديات هيكلية كبيرة مرتبطة بانخفاض مستوى الانتاجية في اغلب بلدان العالم . ويراهن اغلب المحللين الاقتصاديين على الموجة الجديدة من الابتكارات التكنولوجية التي ستعطي دفعا جديدا للنمو الاقتصادي .إلا ان الاقتصاديات العربية خلافا للبلدان الاخرى، لم تستفد من لحظة الصفاء الظرفي التي يمر بها الاقتصاد العالمي .

الاقتصاديات العربية : استقرار رغم الصدمات

رغم الاضطرابات والانعكاسات العالمية والإقليمية للحروب وعدم الاستقرار السياسي برهنت المنطقة العربية على طاقة مهمة من الصمود امام الصدمات وبصفة خاصة في حماية توازناتها المالية الكبرى .وقد برزت هذه المناعة في توازنات المالية العمومية للبلدان العربية حيث كان العجز محدودا في %0.5 سنة 2023 وسيتواصل في مستويات ضعيفة خلال السنتين القادمتين. بطبيعة الحال ظلت وضعية المالية العمومية احسن حالا في البلدان البترولية التي عرفت توازنا بينما سيكون العجز اكثر حدة بالنسبة للبلدان الاخرى.

كما يمكن ان نلاحظ هذا الاستقرار للتوازنات الكبرى في التعامل مع الخارج حيث سجل ميزان الدفوعات للمنطقة العربية فائضا بـ%5.3 سنة 2023 ليتواصل في السنتين القادمتين بمستويات اقل.وفي هذا الاطار لابد لنا كذلك من الوقوف على الاختلافات بين البلدان المصدرة للنفط والبلدان الموردة.

ويهم الجانب الثالث لهذا الصمود تراجع التضخم في المنطقة العربية حتى وان بقي في مستويات مرتفعة في مستوى %16 سنة 2023 ليواصل تراجعه في السنتين القادمتين .وبقيت مستويات التضخم في مستويات اقل ارتفاعا في البلدان البترولية مقارنة بالبلدان العربية الاخرى. ورغم الاوضاع الاقتصادية العالمية الصعبة وانعكاسات المسائل الجيوستراتيجية على الواقع الاقتصادي، حافظت البلدان العربية على مستوى معين من المناعة مما مكنها من تفادي التنبؤات السلبية لبداية 2023 والتي اشارت الى امكانية اعلان افلاس بعضها . ورغم هذا الصمود امام الصدمات الكبرى واجهت المنطقة العربية خطرين كبيرين وهما ضعف النمو والمستوى العالي للتداين واللذين سيشكلان هاجسا كبيرا للأوضاع الاقتصادية في السنوات الاخيرة.

المديونية والنمو : التحديات الكبرى للمنطقة العربية

كانت لخيار حماية التوازنات الكبرى للسياسات العمومية في المنطقة العربية انعكاسات كبيرة على مستويات النمو حيث سجلت المنطقة اضعف نسب نمو في البلدان النامية في السنوات الاخيرة اذ كانت نسبة النمو في مستوى %1.9 سنة 2023 وسيبقى ارتفاعها محدودا في السنتين القادمتين .ولعل الملاحظة الاهم في هذا المجال تهم تراجع الفرق بين البلدان المصدرة للنفط والبلدان الاخرى لتجد كل المنطقة العربية نفسها في فخ النمو الهش .

لئن يكمن تفسير ضعف النمو في البلدان المصدرة للنفط بقرارها بتخفيض الانتاج لحماية الاسعار العالمية من الهبوط،فقد نجحت هذه البلدان في تنويع قاطرات النمو حيث عرفت القطاعات غير النفطية تطورا كبيرا في مساهمتها في الناتج .اما في البلدان العربية الاخرى فيعود ضعف النمو الى الحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه كذلك عجزها عن الخروج من النظام الريعي .

الى جانب ضعف النمو تواجه المنطقة العربية المديونية التي عرفت تطورا كبيرا في السنوات الاخيرة وخاصة في البلدان المتوسطة الدخل .ولئن بقيت معدلات التداين متوسطة ولا تتجاوز %45 في الفترة بين سنوات 2023 و2025 ومستوى التداين في البلدان المصدرة للنفط الا ان التحدي الاساسي وخطر المديونية يقع على عاتق البلدان المتوسطة حيث وصل معدل المديونية الى %71 من الناتج القومي الخام و تشير التوقعات الى امكانية تراجع هذه المستويات الى %64 في حدود سنة 2025. ومن ضمن البلدان المتوسطة يقع التحدي الاكبر على الأردن ومصر وتونس.

و يفسر تراجع النمو والمستوى العالي للمديونية بدخول المنطقة العربية في فخ المناعة والاستقرار نتيجة الخيارات الاقتصادية الكبرى والتي وضعت حماية التوازنات الكبرى نصب اعينها على حساب النمو والاستثمار .ويجب ان يشكل الخروج من هذا الفخ الهاجس الاساسي والرئيسي للسياسات العمومية (choc d’investissement) في المنطقة العربية .

صدمات استثمارية للخروج من فخ المناعة

الى جانب مواصلة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، لابد للسياسات الاقتصادية في المنطقة العربية من ادخاله في اطار عام يجعل من العودة السريعة الى نمو قوي هدفه الاساسي وفي هذا الاطار تشكل عودة الاستثمار العمومي حجر الزاوية لاسترجاع نسق النمو وطاقته والتسريع في نسق النمو العمومي يتطلب خلق حيز مالي او (espace fiscal) للمالية العمومية بصفة خاصة في البلدان المتوسطة مما يمكنها من تكثيف تدخلها في هذا المجال .

وفي هذا الاطار سنناقش خمسة خيارات بإمكانها ايجاد الحيز المالي للحكومات لدفع الاستثمار العمومي.وهذه الخيارات تصاحب العمل الهام الذي تقوم به وزارات المالية في اغلب ابلدان من اجل تحقيق مردودية فعالة للنظام الجبائي .

الخيار الاول والذي تدافع عنه المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي يهم التسريع في الاصلاحات الاقتصادية لتقليص مصاريف الدعم والأجور في الموازنات العامة ويبدو هذا الخيار رغم محاولات عديد الحكومات في هذا المجال صعب التحقيق لسببين اساسيين : تدهور الوضع الاجتماعي وتصاعد نسب الفقر في اغلب البلدان العربية بعد جائحة الكوفيد 19 وظهور توافق سياسي كبير مناهض للإصلاحات .

ويهم الخيار الثاني امكانية اعادة هيكلة المديونية للتخفيف من ضغطها على المالية العمومية كما يبدو هذا الخيار غير محبذ لثلاثة اسباب : تبدو مسالة المديونية قضية سيولة اكثر من كونها هيكلية، فمصداقية الدول تتحاشى هذا المسار وطبيعة المديونية المرتبطة بالمؤسسات المتعددة الاطراف .

اما الخيار الثالث فيخص الخروج على الاسواق المالية العالمية والذي يبدو الان بعيد المنال نظرا لنسب الفائدة السائدة في الاشهر الاخيرة .

اما الخيار الرابع فيهم تحويل حقوق السحب الخاصة (droits detirage spéciaux) الموجودة عند صندوق النقد الدولي والتي لم يتم استعمالها من الكثير من البلدان اثر الاصدار الاخير في سنة 2021. وقد بدأ صندوق النقد يقدم شيئا من المرونة في هذا المجال يمكننا الاستفادة منها.

اما الخيار الخامس فيعود الى استعمال الامكانيات المالية الضخمة والتي وقع تخصيصها للاستثمار في مجال التحول الطاقي ومحاربة الانحباس الحراري .والى جانب توسيع لحيز المالي للدول وتخصيها للاستثمار فإن الصدمة الاستثمارية تتطلب مشاركة كبيرة للقطاع الخاص.وهذا يتطلب القطع مع النظرة السلبية السائدة اليوم والقيام بالإصلاحات الضرورية لدفع المبادرة والاستثمار الخاص .

لقد وجدت المنطقة العربية نفسها اثر جائحة الكوفيد 19 حبيسة فخ المناعة والاستقرار والتي ساهمت في هشاشة حتى التوازنات الكبرى في ظل غياب نمو قوي وسريع.ان الخروج من هذا الفخ يتطلب صدمة استثمارية تحتاج الى تعزيز المساهمة الوطنية ودفع التعاون الاقليمي ودفع التعاون الدولي

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115