الندم والاعتذار والنقد الذاتي

"اندم من ابي غبشان" هو مثل عربي قديم، يعود الى ما قبل الإسلام،

حين كانت القبائل في شبه الجزيرة العربية تتنافس على سدانة مكة، أي رعايتها وصيانتها، وكانت تلك السدانة لزمن طويل بيد قبيلة خزاعة، وكان مفاتيح البيت عند ابي غبشان الخزاعي ـ فاستدرجه قصي بن كلاب القريشي للشرب ولما أسكره اشترى منه السدانة مقابل زقّ (اناء) خمر، ثم أرسل ابنه ليصرخ في قبيلته: " يا معشر قريش، هذه مفاتيح أبيكم إسماعيل رَدَّها الله اليكم من غير غدرٍ ولا ظلم "وعندما أفاق أبو غبشان من سكره ندم ندمًا شديدًا، وقد هجا الشاعر خزاعة ساخرا:
باعت خُزاعةُ بيتَ الله إذ سكرت
بزقِّ خمرِ فبئست صفقة البادي
باعت سدانتها بالخمرِ وانقرضت
عن المقامِ وظلَّ البيت والنادي
ومن منّا لم يعض أصابعه ندما، لخطوة اتخذها، في الحياة الخاصة أو العامة، اساء تقدير نتائجها؟ لكن الندم، عكس ما نعتقد عادة، لا يجب ان يورّث مشاعر الإحباط والاستسلام والإحساس الشديد بالذنب، بل قد يكون مصدر الهام، خاصة وقد ثبت أنه الشعور الأكثر شيوعا بين الناس، فقد أظهرت دراسة أجريت في أواخر القرن الماضي، ان الندم هو الشعور الثاني الذي يرافق الانسان طيلة حياته، وذلك بعد الحب ، وقبل مشاعر أخرى مثل الامل والحيرة والغضب والكراهية...
ويعتقد علماء النفس ان التباهي بعدم الشعور بالندم على أشياء قمنا بها ، على غرار اغنية ايديت بياف Edith Piaf "لست نادمة على أي شيء" (Je ne regrette rien )هو ادعاء غير دقيق ، اذ يؤكد ايدن فييني Edan Feeny، وهو أستاذ علم النفس بالجامعات البريطانية، "ان محاولة التخلص من الندم في حياتنا هي فكرة سيئة للغاية لأنه –أي الندم- الية ناجعة تساعدنا على تعلّم تحسين ادائنا عندما نتخذ القرارات ،وهو إشارة توحي باننا نحتاج الى التفكير وإعادة التفكير في كل استراتيجية نرسمها في حياتنا."
وعلماء النفس يقترحون خطّة واضحة لتجنب الندم مستقبلا وهي القيام بما اسموه "عملية تشريح مسبقة"، أي ان نتخيّل أسوأ النتائج الممكنة قبل اتخاذ أي قرار، وهي استراتيجية تجنبنا، خاصة، ما يُعرف "بالندم الأخلاقي " أي عندما نتصرّف عكس قيمنا او مبادئنا...او عندما يكون دافعنا غرائزنا البدائية، مثل الكراهية او الانتقام...
وقد جرّني الى هذه المقدمة الطويلة ما اقرأته خلال الأسابيع الأخيرة على صفحات التواصل الاجتماعي او ما اسمعه من حين لآخر في بعض المحطات من اشخاص عبروا عن الندم لمساندتهم المطلقة لإجراءات 25جويلية 2021...
جُلّ خصومهم لم يقتنعوا بالاعتذار، فمنهم من اعتقد ان ذلك يتنزل في اطار القفز من السفينة قبل ان تغرق ، خاصة وقد تبيّن ان هذه السفينة ليست لها بوصلة واضحة ، واخرون ادعوا ان الندم والاعتذار جاءا بعد تلاشي الامل في إيجاد مكان في الخارطة السياسية الجديدة ، بعد ان تصدر هؤلاء الاعلام وتباروا في تقديم النصائح للرئيس ، ووضعوا اشخاصهم واحزابهم رهن اشارته ، فخاب ظنهم ، اذ غاب عنهم ان الرئيس ليس في حاجة الى مساعدين او احزاب ، بل انه يرفض فكرة الأحزاب وكل الاجسام الوسيطة اصلا، ويعتقد في وجوب التخلص من كل هذه الهياكل التي تمثل ركائز الديمقراطية الليبرالية ومؤسساتها، وهو دائم السعي الى تحييدها و تعويضها "بديمقراطية قاعدية" ، مباشرة ،دون وسائط او مؤسسات منتخبة تحول بين القائد وشعبه الصادق.
وللتذكير، وليس للمناكفة او التشهير، عديد ة هي المنظمات والأحزاب والشخصيات والرموز الثقافية والسياسية والإعلامية التي صفقت للمسار الجديد، ومنها من اعتذر علنا ومنهم من واصل صمته وظل بعيدا معوّلا على النسيان ولكن العديد تحوّل الى ناقد، خاصة وقد تبيّن له انه ليس في مأمن من المساءلة والملاحقة...
مهما كانت الأسباب ، فإنني اعتقد ان الاعتذار هو خطوة جيّدة واجراء محمود يستحق التقدير والتشجيع ، شرط ان ترافقه مراجعة صادقة ومحاسبة ذاتية ولكن المحاسبة الذاتية او النقد الذاتي ليس من ثقافتنا ، يمينا ويسارا وما بينهما ، رغم ان ذاك النقد الذاتي هو ركيزة أساسية في النظرية اليسارية الا انه لم يكن يوما من أولويات التجربة في المنطقة العربية عموما والتونسية خصوصا، هذا اليسار الذي انهكه تصلّب الأيديولوجيا و ارهقته تفاصيل صراعاته الداخلية يصعب عليه التعلم من اخطائه الماضية ، بقدر صعوبة هضمه وتعايشه مع الديمقراطية التي تبدو غائبة داخل هياكله وبعيدة المنال في علاقته ببقية الهياكل الأخرى ، وليس تأبيد الوجوه التاريخية في القيادة و فشل تماسك الجبهة الشعبية بالأمس القريب والمواقف المتناقضة من مختلف المحطات السياسية الهامة الا بعض الأدلة على ذلك.
في حوار مع الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، ادغار موران ، قال منتقدا ماضيه الأيديولوجي "يجب التشكيك في "سحر" المثل المقدسة التي نحملها" ذاك هو التفكير النقدي ، مضيفا "صحيح ان الحياة دون سحر (الأيديولوجيا) غير قابلة للتصور لدى البعض ، لكنها عند تجربة عيشها يمكن ان تحيل الى مثل عليا جديدة ، اكثر إنسانية وابعد افقا ."
هل هناك افق لنقد ذاتي ونقد عام موضوعي لدى النخب السياسية والمدنية من اجل التجاوز واستعادة الديمقراطية، وخاصة القبول بالعيش المشترك دون تصادم او كراهية او شماتة؟ يظل الامل قائما، لكن كما يقول الكاتب والمفكر الفرنسي، مارسال بروست، من الصعب على الحقائق ان تصحح المعتقدات وذلك لان المعتقدات لم تنشأ من فحص وتمحيص الواقع، بل جاءت عبر انطباعات ومشاعر وافعال غريزية "
لهذا تظل المعتقدات الجامدة والأفكار المسبقة عقبة امام وضوح الواقع، كما قال بروست، وتنتعش هذه المعتقدات اكثر في واقع الشعبوية و"مشاعرها الحزينة" كما عبّر عنها فؤاد الغربالي ، عالم الاجتماع ، شعبوية تونسية عمقت الكراهية والتضاد واستعادت مرحلة سياسية طفولية ، فاصبحنا نتعايش مع شتائم التخوين ، تخوين المختلف ، "المتآمر" و"العميل" و"الاستئصالي" و"الرجعي"... فكيف لنا ان نستفيق من "سكرة" حب الانتقام والتشفي ونؤسس لثقافة جديدة مبنية على التعايش واحترام الاختلاف؟ نظريا، يبدو ذلك أسهل من استعادة ابي غبشان لمفاتيح الكعبة، لكن فعليا يتطلب ذلك أدوات تحليل أخرى، وخاصة ثقافة مغايرة.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115