مستوى غير معهود في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .ولكن هذه الحرب بالرغم وبالرغم من وحشيتها فإنها تندرج في مسار تاريخي يتسم يتصاعد العنف في النظام العالمي منذ سنوات وانفلاته من عقاله ومن الضوابط التي كانت تقيده في المنظومة الدولية .
وقد قابل تصاعد العنف والحرب والوحشية عدم قدرة المؤسسات الدولية وبصفة خاصة المنتظم الأممي على وضع حد لها وإيقاف هذه الصراعات تاركة المدنيين ضحية لجرائم الحرب والانتهاكات والفظائع .
وتطرح الحرب على غزة والحروب الاخرى التي تعرفها عدة مناطق في العالم عديد التساؤلات .وأول هذه التساؤلات تهم هذه المرحلة التاريخية وخصوصيتها مقارنة بفترة الحرب البادرة وتوازن الرعب الذي عرفته العالم اثر الحرب العالمية الثانية .وإذا أسلمنا أن المرحلة التاريخية التي انطلقت اثر سقوط جدار برلين ستقسم بتحرر القيود والضوابط التي ساهمت في اطفاء نار الحروب في السابق فالسؤال الذي يطرح نفسه يهم اسباب عودة الحروب بقوة وطبيعتها .
- الحرب والفظاظة والوحشية في العلاقات الدولية
ظهرت عديد الدراسات والبحوث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية التي حاولت قراءة وتفسير الصعود الكبير وتنامي العنف في العلاقات الدولية .وقد طرحت هذه الدراسات عديد الفرضيات حول التغيير الكبير الذي عرفته العلاقات الدولية اثر سقوط جدار برلين وهزيمة المعسكر الاشتراكي .
في رأيي شكل سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي فظيعة كبيرة في النظام الدولي حيث انهى الثنائية القطبية التي ارتكز عليها اثر نهاية الحرب العالمية لندخل مرحلة جديدة وهي مرحلة القطبية الاحادية مع هيمنة الولايات المتحدة الامريكية على النظام الدولي .وكان لهذا التغيير الجوهري في رأيي انعكاسات سياسية مباشرة .
ان الانعكاس الاول يهم حالة الانفلات وتسيب الهيمنة التي عرفها العالم .لقد ساهم نظام القطبية الثنائية والحرب البادرة في وضع نظام هيمنة على اغلب بلدان العالم لاحد القطبين ساهم في وضع ضوابط وحدود التزمت بها اغلب بلدان العالم ولم تسع لتجاوزها في اطار نظام الهيمنة العالمي وانخراطها الاستراتيجي .ساهمت هذه الضوابط غفي كبح جماح الضراعات والمحافظة على مستوى معين من الاستقرار السياسي وتفادي الحروب المفتوحة .
إلا ان انهيار هذه المنظومة خلق مرحلة من الانسياب ونهاية الهيمنة فتح مجال للصراعات والحروب التي ستأخذ مستوى كبيرا من الوحشية والفظاعة في اغلب بلدان العالم .
ولئن اشار الكثيرون الى مرحلة ما بعد القطبية الثنائية فتحت فترة جديدة من القطبية الأحادية والهيمنة الامريكية .فإنه في تقديري هذه المرحلة لم ترتق الى مستوى الفعالية والنجاعة للسيطرة على مختلف انحاء العالم كما كان الشأن في الحرب البادرة .وفي رأيي فإن هذه الفترة عرفت تحولا كبيرا وخروجا مما اسميته الهيمنة الشاملة على العالم (hégémonie totale) في عصر اللقطبية الثنائية الى الهيمنة الانتقائية (hégémonie choisie) وقد اتسمت هذه المرحلة الجديدة بالقرار الاستراتيجي للقطب الاحادي ببسط هيمنته على مناطق محدودة اعتبرها ضرورية وأساسية لأمنه القومي .
وقد ساهم تراجع الهيمنة الشاملة على المستوى العالمي في ظهور قوى جديدة ثانوية ستلعب دورا مهما من الناحية الجيوستراتيجية ومن ضمن هذه القوى يمكن ان نشير اتلى تركيا وإيران .وفي نفس الوقت شهدت هذه المرحلة الجديدة تصاعد الصراعات والعنف والحروب والتي ستعرف فضاعة ووحشية غير مسبوقة ستقود اغلبها الى ابادات جماعية .وستعرف محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية تصاعد القضايا خلال هذه الفترة .
اما التحول الثاني الذي سيصاحب هذه الحروب والصراعات في فترة ما بعد القطبية الثنائية فيهم نهاية الاسس الايديولوجية لهذه الصراعات التي كانت غالبة في السابق لتأخذ مكانها الخلافات الاثنية والعرقية والدينية.وقد جسد كتاب صراع الحضارات لمؤلفه الجامعي الامريكي صامويل هينتغتون (Samuel Huntington) .
اما الخاصية الثالثة التي اتسمت بها هذه الفترة فهي الصراعات الداخلية داخل البلدان بين الطوائف والتركيبات الاجتماعية المختلفة والتي ستأخذ تدريجيا مكان الصراعات بين الدول.
عرفت نهاية القطبية الثنائية دخول العالم في مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والخلافات والصراعات.وستصبح الحروب الموغلة في الوحشية والفظاعة والتي قادت الى الابادة السمة الاساسية لهذه المرحلة .ومن بين هذه الحروب نذكر على سبيل المثال الحرب في البوسنة سنة 1992 وحرب الابادة في رواندا سنة 1994.إلا ان هذه المرحلة الجديدة ودور الحروب والوحشية في العلاقات الدولية سيتشهد ارتفاعا كبيرا مع بداية الالفية الجديدة .
- حرب الخليج والحرب والوحشية في العلاقات الدولية
بدأت الحروب تشكل ظاهرة اساسية في العلاقات الدولية منذ نهاية القطبية الثنائية والحرب البادرة في تسعينات القرن الماضي .إلا ان هذه الظاهرة ستعرف تصاعدا كبيرا منذ بداية الالفية لتصبح احد ركائز النظام الدولي .
وقد الوزير السابق والجامعي اللبناني غسان سلامة فرضية مهمة في محاضره يوم 5 مارس 2024 في افتتاح الندوة السنوية للمجلس التونسي للعلاقات الدولية حيث اشار الى حرب الخليج سنة 2003 لعبت دورا اساسيا في ما اسماه (la dérégulation de la violence) او رفع القيود على استعمال العنف في العلاقات الدولية .ويشير في قارءته الى ان هذه الحرب تختلف بطريقة جذرية عن حرب الخليج الاولى سنة 1991 في عديد النقاط.اولها ان حرب 2003 لم تتحصل على قرار من مجلس الامن على خلاف الحرب الاولى.كما ان تحالف الحرب الثانية لم يتجاوز اربع دول بينما التحالف للحرب الاولى شهد عددا كبيرا من الدول.كما ان الاختلاف شمل اهداف الحرب فلئن كان هدف الحرب الاولى هو خروج القوات العراقية من الكويت فإن هدف الحرب الثانية كان تغيير النظام في العراق وإسقاط صدام حسين.
ساهمت هذه الحرب في تسريع وتيرة الحروب واللجوء الى القوة في العلاقات الدولية وفتحت المجال امام عديد الدول الاخرى للدخول في مواجهات مباشرة وحروب متعددة ومن ضمنها روسيا في الدونباس (Donbass) والكريمي (Crimée) سنة 2014 وغيرها من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي والتي بقيت فيها اقليات روسية .
تنخرط الحرب المدمرة التي تخوضها الة الحرب الاسرائيلية في مسار تاريخي انطلق مع سقوط القطبية الثنائية وانهيار الضوابط وإزالة القيود امام اللجوء للقوة الغاشمة والمدمرة في العلاقات الدولية .وقد ادت اغلب هذه الحروب كما هو الشأن في غزة الى ابادات جماعية ضد الشعوب والمدنيين العزل .
ولعل التساؤل الاهم والتحدي الاكبر للإنسانية اليوم يهم قدرتها على ايقاف هذه الحروب المدمرة وإرجاع قمقم الوحشية والفظاعة الى عقاله .