وقد كان الوفد التونسي ممثلا فيه برئيس الحكومة ووزيرة المالية والاقتصاد وكاتب الدولة لدى وزير الخارجية. وركّزت عدسات الإعلاميين التونسيين على لقاءات السيد رئيس الحكومة مع مديرة صندوق النقد الدولي أو مع رؤساء بعض الدول معتقدين أن منتدى دافوس فرصة لتونس للتقدم في المفاوضات مع الصندوق وإقناع المانحين الماليين لإقراض تونس والحال أن منتدى دافوس فضاء يلتقي فيه رجال الأعمال المتواجدون بكثرة هذه السنة (حوالي 1600 رجل أعمال) بالحكومات التي قامت بعديد الإصلاحات الاقتصادية وتقدمت ببلدانها في الترتيب العالمي للتنافسية أو قلّصت من حجم المخاطر التي تهدد بلدانها في قادم السنوات.
1. منتدى دافوس، منظمة غير حكومية مقرها جنيف بسويسرا أسسها أستاذ الاقتصاد، كلاوس شواب في سنة 1971. يمثّل هذا المنتدى فضاءا لتلاقى النخب وممثلى الشركات الكبرى في العالم والقادة السياسيين وممثلي أغلب المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبعض منظمات المجتمع المدني المختارة بهدف التداول حول أهم المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تواجه العالم وكيفية حلولها قصد خلق مناخ يسمح بالاستثمار.
2. الى حدود سنة 2016، يعد منتدى دافوس كل سنة تقريرا حول مؤشر التنافسية في كل دول العالم يقدم فيه ترتيبا تفاضليا لهذه الدول حسب المؤشر العام للتنافسية وكذلك حسب كل ركيزة من ركائزه الثلاث وهي المتطلبات الأساسية ومحفزات الكفاءة وعوامل الابتكار والتطور. يعتمد هذا المؤشر على 12 عاملا و114متغيّر ويعتبر كمرجع اقتصادي مهم لرجال الأعمال والمال فى العالم ويعتمد عليه بشكل كبير في كيفية تحديد اتجاهات الاستثمارات الأجنبية.
3. تتكوّن الركيزة الأولى لمؤشر التنافسية-المتطلبات الأساسية- من أربع عوامل وهي المؤسسات، البنية التحتية، بيئة الاقتصاد الكلي والصحة والتعليم الأساسي. أما الركيزة الثانية- محفزات الكفاءة- فهي تعتمد على ست محفزات مهمة وهي التعليم العالي والتدريب، فعالية سوق السلع، فعالية سوق العمل، تطوير السوق المالية، الجاهزية التكنولوجية وحجم السوق. وتتكون الركيزة الثالثة والأخيرة-عوامل الابتكار والتطور- من عاملين أساسيين وهما مستوى تطور الأعمال التجارية ومستوى الابتكار.
4. تعتمد منهجية احتساب مؤشر التنافسية في 70% من وزن المؤشر على استطلاعات الرأي لعينة تقارب 14 ألف من القيادات الاقتصادية في 140 دولة حول العالم وفي 30% منه على البيانات والإحصائيات.
5. منذ 2017، اعتمد منتدى دافوس في تقريره على مؤشر جديد سمّاه "مؤشر التنافسية 4.0" آخذا بعين الاعتبار التطورات الجديدة التي أحدثتها الثورة الصناعية الرابعة فأدخل محاور جديدة وغيّر " سلّم النتائج " ليصبح [0-100] عوضا عن [0-7] حيث تقوى تنافسية البلد عندما يرتفع المؤشر ويقترب من نتيجة 100.
6. تبوأت دول مجلس التعاون الخليجي الستة مراتب الأولى عربيا خلال العام 2016 حيث احتلت دولة الإمارات العربية المتحدة المرتبة الأولى عربيا ودولة قطر المرتبة الثانية ثم المملكة العربية السعودية، المرتبة الثالثة. وفي المقابل اتسم أداء دول شمال أفريقيا بالضعف حيث تصدر المغرب ترتيب تلك الدول باحتفاظها بالمركز الثامن عربيا متقدمة على تونس والتي احتلت المركز العاشر عربيا بعد أن كانت في سنة 2010 في المرتبة الرابعة.
7. قبل الثورة، إحتفظت تونس بالصدارة داخل شمال إفريقيا، واحتلت المرتبة 32 عالميا بفضل قوة المؤسسات الحكومية وفعّالتها وكفاءة سوق السلع والخدمات. وقد حسّنت تونس استقرارها الاقتصادي الكلي بفضل التحكم في معدلات التضخم المالي وتزايد معدلات الادخار والتحكم في عجز موازنة الدولة بالرغم من الآثار الاقتصادية التي تعاني منها معظم الدول في العالم من جراء الأزمة المالية العالمية. ويبقى سوق العمل النقطة السلبية لتونس في مؤشر التنافسية لسنة 2010 والذي يتميّز بالصلابة وبالضرائب المرتفعة وكذلك بعمالة منخفضة للمرأة. كما أن الثقة في استقرار النظام المصرفي مهتزّة وهو ما يستوجب توفير الحماية القانونية للنظام المصرفي وتخفيف القيود المفروضة على تدفقات رأس المال.
8. لكن بعد 6 سنوات من الثورة، تراجعت مرتبة تونس في مؤشر التنافسية لمنتدى دافوس ب 63 مرتبة كاملة، ولم تتقدّم البلاد في أي مكوّن من مكونات مؤشر التنافسية. وقد كان التقهقر في الترتيب العالمي لافتا للانتباه خاصة في فعالية سوق السلع والخدمات، العامل الأقوى في مؤشر التنافسية قبل الثروة حيث تراجعت تونس في هذا العامل ب 79 مرتبة وأصبحت تونس في المرتبة 112 بعد أن كانت في المرتبة 32 عالميا، وكذلك في بيئة الاقتصاد الكلي والتي كانت تتبوأ تونس فيها مرتبة مشرفة في سنة 2010، وهي 38، وأصبحت النقطة السوداء في مؤشر التنافسية في سنة 2016، حيث تراجعت مرتبة تونس في هذا المكوّن ب 71 مرتبة كاملة.
9. وكانت تونس قبل الثورة متقدّمة على المغرب ب 43 مرتبة كاملة حيث احتلت هذه الأخيرة المرتبة 75 في سنة 2010. إلا أن المغرب تمكنت في غضون 6 سنوات من التقدّم ب 4 مراتب وأصبحت تحتل المرتبة ال 71 عالميا في سنة 2016 متقدّمة على تونس ب 24 مرتبة كاملة. وقد نجحت المغرب في تحسين كل مكونات مؤشر التنافسية وخاصة في نقاط قوّة الاقتصاد التونسي، وهي فعالية سوق السلع والخدمات، حيث تقدّمت فيه ب 19 مرتبة بينما خسرت تونس فيه 71 مرتبة، والبنية التحتية وقوّة المؤسسات والتي تقدّمت فيه المغرب ب 17 مرتبة بينما خسرت فيه تونس 36 مرتبة بالنسبة للمكوّن الأول و57 مرتبة بالنسبة للمكوّن الثاني. هذا التوجّه في الإصلاحات التي قامت بها المغرب يبرز مدى إهتمامها بالنموذج التونسي حيث قامت بالإصلاحات الاقتصادية في المكوّنات التي كانت تمثّل قوة الاقتصاد التونسي آنذاك بينما عملت الحكومات التونسية ما بعد الثورة على تدميرها ليتقدم الاقتصاد المغربي أشواطا طويلة على نظيره التونسي.
10. لكن في سنوات 2017 و2018، تقدمت تونس بثماني مراتب حيث أصبحت في المرتبة 87 وقلّصت الفارق الذي يفصلها عن المغرب الى 12 مرتبة بينما تأخر المغرب ب 4 مراتب وعاد الى ما كان عليه في سنة 2010 أي في المرتبة 75 عالميا حيث خسر مراتب مهمة في تقنية المعلومات والاتصالات (4 مراتب) وفي السوق النقدية والمالية (5 مراتب) وفي القدرة على الابتكار (3 مراتب) بينما تقدّم ب28 مرتبة كاملة في بيئة الاستثمار و15 مرتبة في سوق السلع والخدمات و9 مراتب في قوة المؤسسات وعمّق الفارق الذي يفصله عن تونس في هذه المكوّنات الأساسية لمؤشر التنافسية لمنتدى دافوس بالرغم من تقدّم تونس ب11 مرتبة في مكوّن سوق السلع، تقدّم لا يمكّنها من تقليص الفارق الذي يفصلها عن المغرب إذ لا زالت تحتل فيه المرتبة 92.
ومن الجانب الآخر تقدّمت تونس في مكوّن الصحة ب9 مراتب، حيث احتلت فيه المرتبة 49 خلاف للمغرب الذي فقد 3 مراتب وأصبح يحتل المرتبة 91، مصعّدة الفارق الذي يفصلها عن المغرب ب 42 مرتبة كاملة.
11. منذ 2019، توقف منتدى دافوس عن إصدار تقريره السنوي حول التنافسية لأسباب تتعلق بعدم توفر قواعد البيانات بصفة منتظمة لعديد المؤسسات الدولية ومنها البنك الدولي والذي توقف عن إصدار بياناته حول أنشطة الأعمال. لكن المنتدى واصل في إصدار تقارير أخرى لعل من أهمها التقرير حول مستقبل التشغيل والتقرير حول مستقبل النمو وكذلك التقرير حول المخاطر. ويعتبر التقرير حول مستقبل النمو التقرير الأهم الذي قد يعوّض التقرير حول التنافسية بالنسبة للمستثمرين، إلا أن هذا الأخير لا يقدم تفصيلا لكل دول العالم إلا في النسخة الأخيرة لسنة 2024 وبالتالي يعتبر التقرير حول المخاطر، الوثيقة الأهم بما أنها تقدم تفصيلا للمخاطر في كل دول العالم ابتدءا من سنة 2022.
12. واعتمادا على تقرير منتدى دافوس حول المخاطر، فإن المخاطر التي مثلت تهديدا للاقتصاد التونسي منذ سنة 2022 تمثلت أساسا في الدين العمومي كخطر حقيقي ذكر في كل التقارير لمنتدى دافوس ثم هشاشة الدولة وتوسّع حجم التجارة غير المشروعة والتضخم المالي والركود أو الانكماش الاقتصادي والنقص في إمدادات المياه والتزوّد بالمواد الأساسية وأخيرا البطالة.
13. أما بالنسبة للمغرب، فإن المخاطر التي مثّلت تهديدا للاقتصاد المغربي تتشابه في معظمها مع المخاطر التي ذكرتها تقارير منتدى دافوس على الاقتصاد التونسي، لكن خطر عدم المساواة والنزاعات الدولية والظواهر الجوية القصوى مثّلت خصوصية للمغرب لم تذكرها هذه التقارير على تونس. وقد جسّم الزلزال الذي ضرب مراكش في 8 سبتمبر 2023 حجم هذا الخطر الذي تنبأ به تقرير المخاطر لمنتدى دافوس لسنة 2022. كما أن النزاع التاريخي مع الجزائر حول الصحراء الغربية مثّل كذلك خطرا ميّز الاقتصاد المغربي على نظيره التونسي.
14. منتدى دافوس لسنة 2024 خصص لمناقشة جملة المخاطر التي تهدد العالم خلال السنوات المقبلة والتي ذكرها التقرير حول المخاطر لسنة 2024 في نسخته التاسعة عشر، حيث ركز هذا الأخير على خمس مخاطر أساسية وهي 1) المناخ سيكون أكثر قساوة، 2) المعلومات في أغلبها خاطئة وتتم صناعتها عن طريق الذكاء الاصطناعي، 3) الاستقطاب السياسي بين الشرق والغرب لم يكن في صالح الاقتصاد العالمي، 4) تنامي معدلات التضخم المالي أضر بمعظم اقتصاديات العالم و5) تنامي الهجمات السيبرانية تهدد سلامة البيانات الحكومية وتمثل خطر على الأمن القومي.
فتحت شعار "إعادة بناء الثقة"، انعقد مؤتمر دافوس في نسخته ال54 في بداية النصف الثاني من جانفي 2024، حيث تداول في أهم القضايا التي تتعلق بالمخاطر التي ذكرها في تقريره الأخير ولعل من أهمها موضوع "الذكاء الاصطناعي" ومسألة المعلومات الخاطئة المولّدة بالذكاء الاصطناعي بكونها تمثّل تهديدا عالميا ملحّا، وهو ما يعكس التأثير المتزايد للتقنيات الحديثة على الاقتصاديات المعاصرة. كما أن الاستقطاب السياسي بين الشرق، تحت قيادة الصين، والغرب، تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يهدد بانقسام العالم، كان محور النقاش في هذا المنتدى علاوة على التحدي الدائم المتمثل في تغير المناخ بعد الارتفاع المشط في درجات الحرارة العالمية إلى مستويات غير مسبوقة وضرورة تحفيز القطاع الخاص لتطوير التقنيات المنخفضة الكربون.
15. التركيز على لقاءات السيد رئيس الحكومة مع مديرة صندوق النقد الدولي أو مع رؤساء الدول والحكومات لا معنى له، فهذا المنتدى ليس مسرحا للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي أو فرصة لجمع التمويلات اللازمة لسد الثغرة المالية لميزانية الدولة لسنة 2024، بل فرصة لتقديم تونس كمناخ أعمال ملائم لجلب المستثمرين الأجانب. لكن بترتيب مخجل في التنافسية لمنتدى دافوس والذي تفهقر أكثر من 55 مرتبة بعد الثورة لا يمكن إقناع المستثمرين المتواجدين بكثرة في هذا المنتدى. فالدول والحكومات التي تعرف جيدا قيمة هذا المنتدى تهيّأ نفسها قبل عام كامل لهذا الحدث العالمي وذلك بالقيام بالإصلاحات اللازمة لمناخ الأعمال حتى يكون جالبا للاستثمار الأجنبي.