تأتي اثر تراكمات من القمع السياسي والحرمان الاجتماعي والفساد بكل انواعه ، اذ يراكم الحاكم المستبد الغضب لدى الشعوب المقهورة ، دون ان يدرك ان هناك لحظة انفجار قد تقلب موازين القوى ضدّه، وهي لحظة ثورية حقيقية لا يتوقع انفجارها الكثيرون ، فتبعث الامل لدى الشعوب في بداية مرحلة جديدة من "التقدم الأخلاقي " الجمعي ، كما يعتقد كانط، وتدب في الناس قيم أخرى ، ويدغدغ الحلم الشعوب في بداية مسار جديد، مسار تعوض فيه العدالة الحيف والحرية الاستبداد والقانون تسلط المستبد...
لكن يظل الجدل حول مفهوم الثورة ، هل هي مجرد تغيير النظام السياسي أم أنها تستوجب تغييرا جذريا في البنى الاجتماعية ، مما يتطلب ، أحيانا، حضور"العنف الثوري"؟في الحقيقة ،تضاءلت حدة هذا الجدل بعد انحلال الاتحاد السوفياتي والدول التي كانت تسير في فلكه رغم القوة الأمنية والاستخباراتية للمعسكر الشرقي في أواخر القرن الماضي ، ثم جاء ما سمي بالربيع العربي، كي يشاهد العالم ان كل الحركات الاحتجاجية التي أسقطت الأنظمة كانت مظاهرات سلمية وقد واجهت قمعا أمنيا غير مسبوق وانتهت بسقوط الأنظمة بأسرع ما يتوقعه جلّ الخبراء السياسيين والاجتماعيين...مما يشي بأن نمط الثورات القديم ، الذي يقوده الحزب الذي يحمل "أيديولوجية ثورية" و تنظيم قوي قادرين على مصارعة النظام القائم وتقديم البديل الجاهز قد ولّى رغم عناد رافعته الايديولوجية...مع ذلك يظل المشكل ان اللحظة الثورية هي لحظة استثنائية، يخفت اثرها الزخم الثوري ببعده الرمزي وحيويته و اماله واحلامه...ويسود الارتخاء وتعود علاّت الماضي ونزقه، الانانية واليأس والاطماع الشخصية ، كي يتسلل الاستبداد من جديد ويعود بأكثر قوة وعنف وتسلط.
لحظة استثنائية؟
يقول الكاتب علاء الاسواني في مقال تهكمي(كيف تقضي على الثورة في ست نقاط)
"أيها الجنرال. إذا فاجأتك الثورة لا تفزع. إياك أن تخاف من مشهد ملايين المتظاهرين الغاضبين. اهدأ.. التقط أنفاسك وتمالك نفسك. اعلم أن الثورة حالة استثنائية. لحظة إنسانية نادرة يتصرف فيها الناس بشجاعة ويندفعون إلى الموت دفاعا عن حريتهم وكرامتهم." ثم يضيف : "الثورة استثناء والقاعدة أن الناس يتقبلون الظلم خوفا من القمع أو طمعا في مصالح صغيرة. "، فهل ان الثورة "لحظة غضب عابرة" وان الشعوب تتعايش اكثر مع الاستبداد والطغيان؟
يعتقد الكثيرون، بمن فيهم سياسيين ذوي تجربة محترمة ، ان الطغاة يفرضون انفسهم، فقط ، عبر نشر الخوف لدى شعوبهم ، فيشيعون الرعب بين الناس وتخشى النخب المس من مصالحها وامتيازاتها ان هي طالبت بالحرية او الكرامة ، ويخشى الشعب على فتات لقمة عيشه ان هو صرخ من اجل تحسين أوضاعه ، فيسود الهلع داخل المجتمعات ويتبرم الناس من الحديث في السياسة وشؤون البلاد وتسود الريبة في العلاقات الاجتماعية ويركن الناس إلى مصالحهم الذاتية والخاصة ويتسلق المتملقون والانتهازيون لينفخوا في صورة الحاكم ويبررون كل انتهاكاته ...
تحليل المزاج الشعبي:
فهل يفرض الطغاة أنفسهم على شعوبهم عبر الخوف والرعب فقط؟ في مقال بعنوان "لماذا تنساق الشعوب وراء طغاتها " كتبت أستاذة علم النفس بالجامعات الامريكية، دجين كيم Jean Kim، ان كل طغاة اليوم يحملون تقريبا نفس الشخصية المريضة، اذ هم " مزيج من النرجسية وحب التسلط والمكر والخداع ويمتلكون قدرة وقحة على تجاوز القانون دون أدني شعور بالذنب او تأنيب الضمير " الا انهم لا يأتون من فراغ، فهم يتسلقون الى السلطة بمباركة "الجماهير" التي يحتقرونها ولا يعيرون لها أدني اهتمام،" بل ان هذه الجماهير تبرر اخفاقات طغاتها العديدة" لذلك فان "الشعوب هي التي تحتاج الى فحص نفسي كي نفهم دوافعها الى تقديس طغاة سلبوهم حريتهم وأحيانا قوت عيشهم." وتفسيرها لذلك اننا ، "كشعوب بسيطة" تسودها علاقات بطريركية ، نسعى الى استعادة صورة الاب القوي والقاسي أحيانا ، الذي رافقنا في طفولتنا، لنجسدها في الطاغية الذي نعتقد انه يمنحنا الحماية والاستقرار ، خاصة حين نعيش أوضاعا اقتصادية واجتماعية هشة ، و حين تتزعزع ثقتنا في المستقبل ، "حينها يأتي الطاغية ، باعث الامل ، حتى وان كانت وعوده زائفة وافكاره غريبة."
ثم الانسجام العاطفي بين القائد واتباعه:
وصفت عديد الصحف الامريكية وكذلك وسائل اعلام مرئية، على غرار "السي ان ان "، الرئيس الأمريكي الأسبق ، دونالد ترامب، بانه "كاذب ومدلس وعنيف ومتحرش وعنصري" وأثبتت محاكماته العديدة تورطه في قضايا خطيرة، ومع هذا كله، لازال دونالد ترامب يتمتع بقاعدة شعبية قادرة على اعادة انتخابه لرئاسة الولايات المتحدة، فما تفسير هذه الشعبية؟
بعد اقتحام مبنى "كابيتول هيل" من قبل انصار ترامب، يوم 6 جانفي 2021، الذي اعتبر اخطر اجراء ضد الديمقراطية في تاريخ امريكا ، اجرت مجلة العلوم الامريكية حوارا مع باندي لي Bandy Lee، المختصة في علم النفس ورئيسة المجمع العالمي للصحة النفسية وصاحبة كتاب: "ملامح وطن ، عقلية ترامب وروح امريكا"
تقول لي " هناك اضطراب مشترك shared psychosis بين ترامب واتباعه، فالقائد له مؤهلات استبدادية لان نرجسيته المفرطة لا تقبل بمساواته ببقية الناس، مثلما تقتضيه الديمقراطية، كما ان هشاشته العاطفية التي تتجلى في رفض الاعتراف بالواقع الذي لا يتناسب مع رؤيته واحلامه وتوقعاته تجعله عرضة لازمات نفسية متكررة.
اما الاتباع فهم مجروحون في نرجسيتهم ولديهم شعور "بالحقرة" (disdain)وضعف في الامكانيات، لذلك هم في حاجة الى "الاب" الذي يقدم "حلولا"، ولو كاذبة ، ويهدئ من احساسهم بالدونية و يضمد الجراح التي اصابتهم في ذواتهم ، حتى لو اتى بأفعال منافية للمنطق والواقع والاعراف ، "فالأوهام المستحدثة " التي ينشرها القائد، عبر حلول وهمية ، تتحول الى عدوى ضمن مواطنيه، واحيانا الى عنف ، دفاعا عن الوهم الذي صنعه قائدهم.
بعيدا عن التحليل النفسي:
لكن وان كنّا نحتاج أحيانا الى التحليل النفسي لفهم ذهنية الشعوب وردود افعالها، فاننا في حاجة أشدّ الى دراسة ابعاد أخرى ملموسة، فسيرورة الواقع السياسي والاجتماعي وما قد يشوبها من خلل تحمل أيضا مفاتيح مهمة لا تعنينا فقط على الفهم والتحليل ، بل وكذلك على تفادي الأخطاء القاتلة.
لو عدنا الى الثورة التونسية وسيرورتها منذ 17 ديسمبر 2010 الى 14 جانفي 2011 ، لأدركنا دون جهد فهم عميق ، ان الشارع التونسي كان متقدما في مطالبه (وشعاراته)بأشواط كبيرة عن الطبقة السياسية التي كانت في اغلبها اما مترددة أو انها حددت سقف مطالبها بإصلاحات سياسية أو هي على أتم الاستعداد لمشاركة السلطة القائمة آنذاك في الحكم، واستمر هذا الوضع حتى بعد تتالي الانتخابات الرئاسية والتشريعية ، حيث تكرست الهوة أكثر بين النخب السياسية والشعب ، وتبيّن ان الأحزاب وحتى العديد من منظمات المجتمع المدني معنية أكثر بمصالحها الحزبية والخاصة.
وقد برز السيد قيس سعيد ضمن هذا المسار سياسي المحبط والصراعات حزبية عقيمة وهذه الطبقة السياسية التي بدأت تتآكل ، وسط هذا الركام ، استعاد الرجل شعار الثورة المحوري "الشعب يريد" ليصبح ،بالنسبة للشباب والحركات الاجتماعية التي لم تهدأ خلال العشر سنوات، الحل المنشود وليرى هؤلاء في الرجل استحضارا "ثوريا "لعبق الحراك الجماهيري وانتقاما من تلك الأحزاب التي "خانت الثورة."ولا أعتقد ان أولئك الذين ساندوه ثم انتخبوه(اكثر من ثلث ناخبيه ،سنة 2019 ،لم يصوتوا سابقا في اي انتخابات) انتبهوا الى فهمه المختلف للديمقراطية ولا الى آرائه المحافظة ولا الى برنامجه الهلامي ولا لتخطيطه للمستقبل ...
هل ماتت الثورة؟
لابد ان ندرك ان قيام الثورة لا يعني نجاحها الاني ، فجل الثورات عبر التاريخ عرفت انتكاسات مؤلمة وارتدادات قاسية ، حيث تظل عناصر الثورة المضادة تتحيّن الفرصة لاستعادة الماضي وتستثمر في كل الأخطاء، لكن على النخب السياسية والمدنية التعلم من اخطائها واستعادة الثقة التي فقدتها .
لذلك اتفق تماما مع اصف بيات ، أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعات الامريكية والخبير في منطقة الشرق الأوسط، حين اعتبر ان الثورات لا تقاس بمدى ما حققته من تغيير في الحياة السياسية ولا حتى بتطور الحياة الديمقراطية ، بل "بتجربة المقاومة التي اكتسبها الشعب حين دمر جدار الخوف" الذي أقامه الاستبداد، لذا فكل عمل سياسي او مدني يجب ان يعتقد في المقاومة الكامنة في الشعب ويعمل على تطويرها وتوجيهها.