نجحت الوساطة القطرية والمصرية بمتابعة الادارة الامريكية في التوصل الى هدنة اولى بخمسة ايام مقابل تبادل الاسرى الاسرائيليين عند المقاومة وتحرير عدد مهم من السجناء الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية .وعند انتهاء هذه الهدنة الاولى تم تمديدها لهدنة ثانية بيومين بنفس الشروط وتبادل الاسرى والمساجين من النساء والأطفال .وتتواصل المفاوضات اليوم على قدم وساق في الدوحة بين السلطات القطرية والمصرية والأمريكية مع ممثلي المقاومة واسرائيل من اجل تمديد هذه الهدنة والمرور تدريجيا الى وقف اطلاق النار الذي تسعى اليه عديد القوى واصبح طلبا ملحا على المستوى العالمي .
وقد سمحت هذه الهدنة من الاطلاع باكثر دقة على حجم الدمار الذي لحق بقطاع غزة والذي تسببت فيه هذه الحرب المسعورة ومشروع الابادة لاغلب المناطق .فقد تجاوز عدد الشهداء 13.000 الف حسب الارقام الاولية للسلط الصحية في قطاع غزة .كما عرف عدد الجرحى ارقاما مرعبة لم تعرفها ولم تصل اليها الكثير من الحروب الاخرى في العالم .كما عرفت المباني السكنية مستوى كبيرا من التهديم جراء الغارات الجوية والقصف تجاوز نصف المباني والتي اصبحت فغفير مؤهلة للسكن مما سيضيف من ماسي المدنيين ونحن على ابواب الشتاء .كما شهدت البنية التحتية من مستشفيات ومراكز صحية ومدارس مستوى كبير ا من التدمير جعل اغلبها خارج الخدمة .
والى جانب هذا التدمير تشير التقارير الدولية الى النقص الرهيب في المواد الغذائية والماء الصالح للشراب .وقد اشارت تقارير الامم المتحدة ومختلف مؤسساتها المختصة ان الوضع الانساني في غزة ينبؤ بكارثة غير مسبوقة على جميع المستويات من تراجع للغذاء وتطور للجوع والعطش والامراض .
تطرح هذه الكارثة الانسانية مسالة مستقبل الهدنة وضرورة تمديدها وتحويلها الى وقف شامل لاطلاق النار مع الامل الى الوصول الى اتفاق سياسي لمحاولة تجاوز الاثار المدمرة لهذه الحرب .ولئن تدفع اغلب البلدان العربية وعددا متزايدا من البلدان الاوروبية والبلدان الاخرى والمنظمات العالمية مثل الامم المتحدة نحو هذا التمشي فإن الكثيرين في اسرائيل وخارجها لازالت يحدوهم اراده الحرب والتدمير وامل نكبة جديدة كالتي حصلت في 1948 وإفراغ القطاع من سكانه كحل جذري لامن اسرائيل .
نعيش خلال هذه الايام على وقع هذا الصراع بين ارادة السلام ومحاولة للخروج من هذه الازمة باتفاق سياسي من جهة والمنهجية المدمرة والتي تسعى الى مواصلة التطهير العرقي في القطاع .
وسنحاول في هذا المقال مناقشة اهم السيناريوات للمآلات الممكنة لهذه الهدنة وامكانية تحولها الى اتفاق سياسي شامل ام انها ستكون فرصة لاسترداد النفوس من اجل العودة للحرب التدميرية .ولكن قبل العودة لنقاش المآلات سنتوقف عند الاسباب التي دفعت لهذه الهدنة على هشاشتها باعتبارها ستنير قراءتنا لمختلف مآلات ما بعد الهدنة .
- في اسباب الهدنة
لقد دخلت اسرائيل اثر هجوم 7 اكتوبر في حرب مدمرة ضد قطاع غزة رافضة كل محاولات الوصول الى اتفاق قبل بدء الهجوم البري حسب ما اقادت به عديد الاطراف المساهمة في المفاوضات .ويبدو ان الشروط التي قدمتها حركات المقاومة قبل الهجوم البري لم تكن تختلف عن الشروط التي قبلتها اسرائيل اليوم والتي رفضتها في حينها .
إلا ان الحكومة الاسرائيلية والتها العسكرية كان يقودها هاجسين .الهاجس الاول هو الانتقام من الهزيمة النكراء التي الحقتها بها المقاومة يوم 7 اكتوبر متحدية بذلك التها العسكرية وقدرتها الامنية والاستخباراتية .وقد شكلت هذه الهزيمة وواقعة 7 اكتوبر اكبر تحد واجهه "الجيش الذي لا ينهزم" في تاريخه. وكان بالتالي الرد العسكري المسعور للآلة الحربية يعمل من خلال هذا الانتقام الجماعي على غزة وسكانها المدنيين محاولة لاعادة الاعتبار لشرف وقوة الجيش المفقودة .
اما الجانب الثاني والذي قاد اسرائيل الى رفض هذه الدعوة الاولى للمفاوضات فهو قناعتها بقدرة التها العسكرية للوصول الى نتائج مهمة تسمح للحكومة بإعادة بناء شرعيتها بدون دفع ثمن باهض خاصة من جهة اطلاق وسراح المساجين الفلسطينيين .
إلا بعد ستة اسابيع من الحرب المسعورة وصلت اسرائيل الى ضرورة القبول بهذه الهدنة والدخول في مفاوضات لتحقيق بعض النتائج التي عجزت عن الوصول اليها بالخيار العسكري .وقد ساهمت خمس اسباب اساسية في رايي للوصزول الى هذه الهدنة .
يهم السبب الاول الذي قاد الى الهدنة فشل الجيش الاسرائيلي في تحقيق نتائج مهمة وملموسة عدا التدمير والمأساة التي خلفها القصف الاعمى للمدنيين في غزة.وقد اشارات الحكومة الاسرائيلية ان لها ثلاث اهداف مهمة من وراء هذه الحرب وهي القضاء على حماس ،تحرير كل الرهائن وضمان امن الكيان المحتل على مدى طويل .الا انه ومنذ البداية اكدت عديد القراءات والتحاليل الاستراتيجية ان هذه الاهداف غير واقعية ولا يمكن الوصول اليها .وكانت هذه التحاليل وراء النقد الذي وجهته الادارة الامريكية وخاصة القيادات العسكرية الاستراتيجية العسكرية بالرغم من دعمها اللامشروط للخيار الاسرائيلي.
وقد اشارت اغلب التحاليل في هذا المجال الى الثلاث شروط اساسية التي يجب اعدادها قبل الدخول في اي حرب او مواجهة .وحسب هذه التحاليل الاستراتيجية فانه لابد من اعداد ثلاث شروط وهي التأكد قبل الدخول في المواجهة انه تم استنفاذ كل الحلول السلمية لحل الصراع .ثانيا واذا تم اخذ قرار الحرب فإنه يجب تحديد اهداف واقعية وملموسة للمواجهة.اما الشرط الثالث فهو تحديد مشروع سياسي واضح المعالم لما بعد الحرب قبل البدء في المواجهة .الا انه يبدو ان اسرائيل لم تحدد اي من هذه الشروط قبل الانطلاق في هذه الحرب المسعورة والتي لم تمكنها من تحقيق اي من اهدافها ولم تخلف الا الدمار .
وقد دفع هذا العجز العسكري الكيان الى القبول بهذه الهدنة المؤقتة لإعادة النظر في اولوياته ولمحاولة تحقيق بعض الاهداف والتي عجز عن الوصول اليها من خلال الحل العسكري خاصة في ما يخص تحرير الاسرى .
اما المسالة الثانية والتي اسهمت في الوصول الى هذه الهدنة فتهم قدرة المقاومة وصمودها.وشكل هذا الصمود العسكري مفاجأة كبيرة لكل المتتابعين مما جعل الاجتياح لا يمثل فسحة للجيش الاسرائيلي كما كان الشأن في السابق .وكان لهذا الصمود خسائر كبيرة للجيش الاسرائيلي في القتلى والجرحى والمعدات .
وقد شكل استعراض القوة الذي قات به فضائل المقاومة اثر تسليم الدفعة الثالثة من الاسرى رسالة قوية اشارت من خلالها انه بالرغم من الخسائر الهامة التي تكبدتها والتي اعلنت عليها فإن امكانياتها وطاقاتها لازالت هامة .والحديث عن الصمود اي قف على حركات المقاومة بل يهم كذلك الشعب الفلسطيني في غزة.فبالرغم من حجم الدمار والمأساة الانسانية التي يعيشها بسبب العدوان فلم يرضخ لإرادة اسرائيل بالخروج من غزة والهجرة من جديد خارج فلسطين ليبقى متشبثا بالأرض وملتفا حول المقاومة .
اما العامل الثالث والذي قاد الى هذه الهدنة فيهم حجم الخسائر الاقتصادية التي بدا يتكبدها الاقتصاد الاسرائيلي من جراء الحرب والتي اصبحت تشكل عبئا كبيرا وثقيلا لا يمكن لها مواصلة تحمله لفترة طويلة .
اما العامل الرابع فيعود الى التحول الكبير في مواقف الحكومات على المستوى العالمي وخاصة الراي العالمي .فقد عرفت اغلب بلدان العالم مظاهرات ضخمة ومتواصلة في اكبر مدن مثل لندن وواشنطن وكل البلدان العربية للمطالبة بوقف العدوان وايقاف الحرب .كما عرفت مواقف عديد البلدان تحولات كبرى لعل اهمها مواقف اغلب البلدان العربية وبلجيكيا واسبانيا والمنظمات الدولية والتي اصبحت تطالب بإيقاف الحرب وتكثيف الدعم الانساني للقطاع .
اما العامل الخامس والاخير فيهم عائلات الاسرى والتي اصبحت تشكل قوة ضغط كبيرة داخل اسرائيل للمطالبة بعودتهم بالرغم من الرأي العام المساند للحرب والداعي الى مواصلتها .
ساهمت هذه العناصر والتطورات التي عرفتها هذه المواجهة في الوصول الى هذه الهدنة الوقتية والتي مكنت من ادخال المساعدات الانسانية الى غزة وتبادل الاسرى والمساجين.الا ان هذه مواصلة هذه الهدنة وامكانية تحولها الى وقف شامل لإطلاق النار ومنه الى اتفاق سياسي هي بمحل مفاوضات عسيرة .وتبدو المآلات لما بعد الهدنة لحد الان غير واضحة وتفتح على احتمالات متعددة .
- في مآلات وسيناريوات ما بعد الهدنة
تور هذه المآلات حول ثلاث سيناريوات ممكنة ويتم تدارسها .
السيناريو الاول هو مواصلة الحرب وعودة الاستعمار وهو سيناريو الرعب حيث تسعى الاطراف اليمينية المتطرفة في الحكومة الاسرائيلية الى انهاء الهدنة بسرعة والعودة الى خيار الحرب والتدمير .وترى هذه القوى ان الحل الجذري لأمن اسرائيل هي نكبة جديدة مثل التي حصلت في 1948 لاجلاء ما يمكن اجلاؤه من سكان غزة.ومن ثمة يعود الجيش الى السيطرة على القطاع واستعماره كما كان الشأن منذ هزيمة 1967 الى الانسحاب في 2005.
إلا ان هذا السيناريو يثير الكثير من الخوف والرفض خاصة من قبل بعض القوى العظمى .فالعودة الى الحرب ستفتح باب توسيعها والذي قد يشمل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن باكثر قوة .كما قد يؤدي هذا السيناريو الى دخول ايران للمواجهة ويؤدي بالتالي الى نزاع اقليمي شامل قد تكون له انعكاسات عالمية .هذه المخاوف والمخاطر تدفع العديد من الدول والمنظمات الدولية الى تفادي السقوط في هذا السيناريو المرعب .
اما السيناريو الثاني فهو ما اسميته بسيناريو الوصاية الدولية من خلال تكوين قوة دولية مهمتها الحفاظ على الامن وتفادي هجومات على اسرائيل .وهذا السيناريو هو شبيه الى حد ما بجنوب لبنان مع قوات اممنية لحفظ السلام بين اسرائيل ولبنان .وفي اطار هذا السيناريو تقترح بعض الجهات اعطاء كل السلط للسلطة الفلسطينية لا فقط في الضفة الغربية بل كذلك في قطاع غزة .ويبدو واضحا ان هذا السيناريو سيكون صعب المنال لعديد الاسباب .اولها هو رفض المقاومة مبدا دخول اية قوى اجنبية للقطاع .
اما السبب الثاني فهو رفض مصر التي لعبت هذا الدور وأدارت القطاع بين 1948 و1967 من ان تلعب هذا الدور من جديد .اما السبب السياسي والرئيسي والذي يقودنا الى السيناريو الثالث وهو ضرورة الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني .
اما السيناريو الثالث فهو الذي يقود الى بناء الدولة الفلسطينية والاعتراف بها دوليا.ويمر هذا المسار الذي تنادي به العديد من الاطراف والكثير من الدول العربية ودول العالم عبر تحويل الهدنة الى وقف اطلاق نار دائم .
ويفتح هذا الاتفاق المجال للاتفاق السياسي وإعلان الدولة الفلسطينية والتي تشكل اطار الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والتي تشكل اطار اللاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني .ويمكن لهذا المسار ان يأخذ مرحلتين .المرحلة الاولى التي تشرف عليها حكومة تكنوقراطية تقوم باعادة الاعمار وبناء الدولة والإعداد وتنظيم انتخابات ديمقراطية .اما المرحلة الثانية فتقود الى تحمل السلطة المنتخبة لمسؤولياتها ومهامها الكاملة والتعبير على السيادة الوطنية الفلسطينية .
تعيش اليوم غزة لحظات حرجة في ظل الهدنة المؤقتة .ولئن تسعى الاطراف اليمينية المتطرفة الى العودة الى الغامرة العسكرية المسعورة فإن الكثيرين يسعون للخروج من هذه المحنة بنجاحات سياسية وأولها الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتكوين دولته الوطنية والمستقلة والعيش فوقها بسلام .