دور الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في زمن الجمهورية الثانية

يأتي المؤتمر السابع للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان الذي سينعقد خلال 30 سبتمبر و1 و2 أكتوبر في واقع التحولات التي تعرفها بلادنا منذ جانفي 2011، وهي تحولات شملت نظام الحكم والمرجعيات الدستورية والحياة السياسية والجمعياتية .
وقد فتحت هذه التحولات

آفاقا جديدة للعمل الحقوقي لكنها، في نفس الآن، فرضت تحديات لابد من مواجهتها ، محافظة على هذه المنظمة التي تعتبر احد المكاسب الوطنية الهامة ، لا لتاريخها النضالي فقط ، بل اعتبارا للصعوبات العديدة التي يعرفها الانتقال الديمقراطي على مستوى تكريس الحقوق ، بكل أبعادها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية ، كما نادت بها كل المواثيق والعهود الدولية وكما طالب بها آلاف المواطنين في كل الجهات حين واجهوا آلة القمع التي فرضها نظام بن علي على تونس.
وان كنا ندرك جميعا أن للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان تاريخا نضاليا يعود الى اربعة عقود وان رصيدها في الدفاع عن الديمقراطية والحريات الفردية والعامة ودولة القانون عريق فإننا يجب ان ندرك كذلك ان هناك مهاما وتحديات جديدة تفرضها مرحلة الانتقال الديمقراطي وبناء المؤسسات وذلك في علاقة بالدولة والمجتمع معا.

وقد كانت جائزة نوبل ، ضمن الرباعي الراعي للحوار خلال سنة 2015، في رأينا تتويجا للمجتمع المدني في تونس وللدور الذي لعبه في تأمين الحوار والخروج بالبلاد من نفق الانقسام والعنف السياسي الذي وصل إلى حد الاغتيالات،لكنه كان، في نفس الان ،اعترافا لهذا المجتمع المدني (والرابطة جزء هام منه) بما تحقق على مستوى فرض المرجعيات الديمقراطية في الدستور التونسي ، ومنها تضمين الحقوق الفردية والعامة والمساواة بين الجنسين وحرية المعتقد والضمير ...

وقد جاء الدستور التونسي بعد جدال فكري بين القوى الديمقراطية المؤمنة بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية بمفهومها الشامل وبين قوى محافظة رافضة لكل هذه القيم باسم الخصوصية بل ووصل الأمر إلى حد المناداة بدولة الخلافة واعتماد الشريعة كمبدأ للحكم.
إننا اليوم في حاجة إلى إدراك المرحلة الدقيقة التي نمر بها ورهاناتها ومقتضياتها حتى نهيئ الرابطة للدور الذي يجب أن تلعبه كي تساهم في تطوير الحركة الحقوقية في تونس المنطقة والعالم.

فمؤتمر الرابطة ليس فقط مناسبة انتخابية لتجديد القيادات بل هو فرصة يجب اقتناصها حتى نجدد طاقات المنظمة ونفتح افاقا جديدة نعزز من خلالها قدرات المجتمع على رفض التسلط والحيف وانتهاك حقوق الإنسان في كل المجالات.
ان التطور الموضوعي الذي عرفته الرابطة خلال تاريخها قد فرض نفسه على نظام سياسي كان يسعى دائما الى تدجينها والسيطرة عليها وعلى التصورات المتكلسة لبعض الأفكار اليسارية التي لم تكن ترى في الرابطة إلا مكملا لعملها الحزبي والإيديولوجي وعلى بعض

القوى الدينية المحافظة التي كانت تتعلل بالخصوصية وتتخفى وراء الشريعة،وهذا ما جعلها مكسبا وطنيا جامعا للقوى التنويرية ، وجزءا من الضمير الجمعي التونسي المؤمن بحقوق الإنسان بمفهومها الكوني ، لذلك فهي كانت دائما عصية على التوظيف الحزبي أو الترويض الإيديولوجي والديني المناهض للمبادئ الحقوقية .

لهذا فمن أوكد واجبات الجيل الرابطي الحالي الحفاظ على دور الرابطة واستقلاليتها بعيدا عن كل توظيف والدفع باتجاه اتخاذ خطوات جريئة يمليها سياق التحولات التي فرضتها الإرادة الشعبية التواقة الى الحرية والكرامة والعدالة.
وانطلاقا من هذه المبادئ واستنادا الى كل التراث الاصلاحي والحقوقي والى مرجعيات حقوق الانسان بأجيالها الاربعة : المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية
وبالنظر الى المهام المطروحة علينا اليوم ، زمن الانتقال الديمقراطي، تحتاج الرابطة الى رؤية جديدة وإستراتجية عمل باتجاه ثلاثة محاور متكاملة:

1 - الدفاع عن النواة الصلبة لحقوق الانسان:
لقد قطعنا فعلا خطوات حاسمة نحو إقرار حقوق الإنسان و المواطن بفضل دستور 2013 و هو ما حول محور النضال من مجال الإصلاحات الدستورية إلي مكاسب على مستوى التشريعات و القوانين و إلى مجال بناء لمؤسسات الدولة الديمقراطية وهو ما يعني ضرورة تحول المجتمع المدني- و الرابطة خصوصا- إلى سلطة رقابة تدفع باتجاه دمقرطة مؤسسات الدولة وتفعيل الاليات الدستورية الكفيلة بمنع اي انتكاس يعيد التسلط والحكم الفردي.

إن الديمقراطية الإنتخابية بما تفرزه من توزيع متغير للأغلبية و الاقلية تبقى غير مكتملة في نظر المناضل الحقوقي لان هذا الاخير يظل مشغولا بتطوير الممارسة الديمقراطية وبالمشاركة المواطنية و بتعددية الفضاء العام التي تضمنها حقوق الإنسان الأساسية في المعتقد و التفكير و التعبير والتنظم، وهي الضامنة لقيام مجتمع مدني حيوي مستميت في الدفاع عن الحقوق و قادر على مواجهة التسلط.
ولا تقف مقتضيات الدفاع عن النواة الصلبة و الأساسية لحقوق الإنسان في تونس عند حدود علاقة التوازن الضرورية بين المجتمع المدني و الدولة بل تتعداه لتكون معركة فكرية و سياسية و ثقافية داخل المجتمع ذاته الذي لابد أن تخوض ضمنه القوى المؤمنة بالديمقراطية

و الحقوق و المواطنة ومدنية الدولة معركتها الثقافية ضد القوى المحافظة المعيقة لتطلعات التطور و التقدم لمجتمعنا ، فحقوق الانسان كما اكدت ذلك تجربة السنوات الست الماضية مهمة تاريخية تساهم خلالها الحركة الحقوقية في تخليص قطاعات واسعة من المجتمع من أوهام الارتداد والاكتفاء بتمجيد الماضي ورفض التطور عبر اقرار المساواة الكاملة بين المواطنين والمواطنات و ضرورة احترام الأقليات و رفض كل مظاهر الاضطهاد والتسلط باسم الدين |أو اية ايديولوجية اخرى ومقاومة نزعات التكفير والعنف والعنصرية ، وهي حقول فعلية للنضال الحقوقي يقع على عاتق الرابطة ومن يشاركها قيمها اليوم الاضطلاع بها وتعبئة الرأي العام حولها.
فالمجتمع الديمقراطي الذي نطمح اليه لا تقيّمه فقط المؤسسات الدستورية ولا نزاهة الانتخابات ولا حتى باستقلالية المنظمات وحرية الاحزاب فقط، بل يحتاج الى تربية جديدة على المواطنة تحترم الانسان عامة وتقبل بالاختلاف وترفض التطرف والعنف ، وهنا يأتي دور المجتمع المدني ، ومنه الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، الذي يجب ان ينخرط في تطوير النظرة المجتمعية ويؤسس لثقافة جديدة تتخلص تدريجيا من شوائب الانغلاق والرأي الاوحد ورفض الاخر والتعصب بكل اشكاله.

2 - المواطنة الاجتماعية : شرط المجتمع العادل
وان تضاءل الجدل العام حول منزلة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بين التوجهات السياسية والإيديولوجية ، إلا أن حضور مفاهيم مثل العدالة والمساواة والحق في الكرامة والشغل ما انفكت تبرز من خلال التحركات الاجتماعية ، وهو ما يجعل الحقوقيين يعيدون الاعتبار الى المواثيق الدولية التي تضمن الحقوق بكل ابعادها ، ومنها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
ولا نطرح مسألة «المواطنة الاجتماعية» هنا علي المستوى النظري فقط بل في سياق تحول تاريخي هام بيّن بجلاء أهمية المسألة الإجتماعية و التنموية في تونس بعد عقود من السياسات الإقتصادية الليبرالية و غير الشفافة والمكلفة إجتماعيا وهي كلفة لاتزال تدفع ثمنها الجهات والفئات المحرومة.

وتكفي العودة إلي مؤشرات التنمية البشرية في الجهات الداخلية و مؤشرات البطالة و الفقر للوقوف علي أن أوكد شروط العدالة و تكافؤ الفرص و الإنصاف غير مضمونة لكل التونسيين وهو ما يجعل من محور الحق في التنمية والحق في الحياة الكريمة عبر الصحة و السكن اللائق و التعليم والخدمات العامة والبيئة محورا أساسيا في عمل الرابطة مستقبلا، بل هو شرط عودتها إلي ساحة الفعل و الـتأثير في أوساط شبابية وفئات يتيمة السند المدني و السياسي .
لم يعد من الممكن اليوم طرح مسألة المواطنة والديمقراطية و الحرية بمعزل عن العدالة الإجتماعية ، اذ لا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي عادل ، يحترم فيه الفرد وتصان حقوقه كاملة حين نقبل بالحيف والبطالة وتهميش الشباب وتواصل الحيف والتمييز ضد الجهات والمناطق الداخلية.

ومما يزيد في ترسيخ هذه القناعة ما نشهده في تونس من تنامي أشكال الإحتجاج الإجتماعي المدني من أجل الحق في الشغل و التغطية الصحية و ضد الطرد التعسفي والاعتداء على البيئة ...
لأجل ذلك لابد أن تتجه الرابطة في مجال الديمقراطية المحلية و التنمية الجهوية و محاربة الفساد إلى بلورة البدائل و التشبيك مع باقي الفاعلين و تعبئة النشطاء و الحركات الجديدة الفاعلة محليا من أجل فرض تغيير للسياسات العمومية ولسياسات الشراكة مع الخارج وجعلها تستجيب للمطالب المشروعة للأغلبية لا في خدمة أقلية متنفّذة .

ويمكن للرابطة في هذا المجال أن تستفيد من تجارب الماضي حين انخرط الرابطيون في معارك اجتماعية الى جانب عاملات النسيج (2003) والطلبة الموقوفين من اجل حقهم النقابي(2006) وانتفاضة الحوض المنجمي (2008) وكذلك خبرات دولية لمنظمات مجتمع مدني ونقابات نجحت في بناء قوة ضغط و تغيير من أجل حوكمة شفافة و تشاركية و دور تنموي للدولة. كما تستطيع العودة إلى تراث الحركة الإجتماعية و الديمقراطية التونسية بأدبياتها و تجاربها لتأصيل المشروع الديمقراطي الاجتماعي كجزء من النضال الحقوقي المستمر.

3 - حقوق الإنسان و الديمقراطية في زمن العولمة
حملت العولمة بخلفيتها النيوليبرالية منذ بداية تسعينات جملة من التحولات الهيكلية للإقتصاد العالمي على أساس الهيمنة المطلقة للسوق الحرة و التبادل التجاري المفتوح و تراجع الأدوار التعديلية للدولة وقد رافقت هذه الهيمنة الإيديولوجية لليبرالية الجديدة سلسلة من الحروب والتدخلات العسكرية بغاية فرض منطق العالم ذي القطب الواحد وأدت هذه السياسات إلى ازمات اقتصادية ومالية دفعت كلفتها في مقام أول الطبقات الفقيرة و شعوب الجنوب ، كما ادت الى فرض منطق القوة في مواجهة الازمات الدولية ، وقد انتهكت الدول العظمى حقوق الشعوب في الحياة والأمن ، واعتدت على المواثيق والقوانين الدولية وذلك من اجل حماية مصالحها الخاصة.

وتحولت وجهة اهتمام منظري العولمة إلى إدانة المهاجرين والاعتداء على حقوقهم ونبذ الاقليات والتحقير بثقافات الشعوب و معتقداتها الدينية ونشر ثقافات التزمت والتطرف ونتج عن ذلك اتساع الهوة بين الشعوب وتأجيج مشاعر الخوف من الاخر وكره الاجانب
لكن لم تبق هذه النزعات الهيمنية لدعاة العولمة دون مقاومة بل إن حركات حقوقية و مدنية و نقابية و نسوية وثقافية إتجهت إلى التقارب و التشابك ضمن فاعلية نضالية أقوى وهو ما نلمسه في حركة العولمة البديلة و المنتديات الإجتماعية وحركة السلم الأخضر ووصل التضامن الى حد التعاطف مع الحراك الثوري في تونس ومصر وغيرها وتنظيم منتديين اجتماعيين في تونس سنتي 2013 و 2015 ، وذلك لتشجيع تجربة ديمقراطية فريدة اختزلت في شعاراتها المنادية بالحرية والمساواة والكرامة كل تطلعات الشعوب.

وهنا يمكن للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ان تلعب دورا مهما إعتبارا لعراقتها التاريخية وتجربتها و إعتبارا كذلك لتجربة الإنتقال الديمقراطي التونسية وما تحمله من آمال و ممكنات .
و يتجسد هذا الدور في تنشيط دور الرابطة على المستوى الدولي حتى تكون مرجعا حقوقيا و جزءا من مقاومة إنسانية و عالمية لاستغلال الشعوب و إستهداف هوياتها و مقاومة إنتهاك حقوق الأقليات ومواجهة عودة العنصرية بكل ابعادها العرقية و الدينية والاعتداء على حقوق الانسان.

إن فضاء فعل و تفاعل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ليس فقط الفضاء المحلي بل كذلك الفضاء الإنساني الأرحب، فمن خلاله تثري تجربتها وتطور أداءها و تنخرط في الدفاع عن عالم ديمقراطي يسوده قانون دولي منصف و عن قيم التسامح بين الشعوب و الثقافات و الأديان .

ففي هذا الفضاء اليوم نقاش جدي وثري ومتعدد وديمقراطي حول مستقبل الديمقراطية و أسس قيام المواطنة ببعدها الوطني والكوني و حقوق الثقافات و التعددية الثقافية ومستقبل الأجيال القادمة.
عناوين هذه المعارك المشتركة اليوم متعددة منها مناهضة سياسة الإحتلال و الميز العنصري ومناهضة الحروب والتسلح ومنها حملات التضامن مع النشطاء الحقوقيين وحملات العدالة المناخية و حقوق المهاجرين ...
بهذا تصبح الهيئات الاممية المعنية بحقوق الإنسان والمنظمات الدولية و الشبكات الإقليمية و العالمية إطارا آخر لنضال الرابطة المؤهلة موضوعيا للقيام بدور متقدم في المنطقة العربية للتقدم بقيم حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقوق النساء و الأقليات و المهمشين وكذلك لربط نضالات شعوبها بشعوب العالم خاصة في زمن تحول الفضاء العام الافتراضي الى فضاء حر.

ليست هذه المحاور الثلاثة متباينة بل إنها تتآلف لتشكيل ما يمكن إعتباره المدخل المنهجي لإعادة دور الرابطة على الساحة الوطنية ونحن في مسار بناء مقومات جمهورية ديمقراطية و شروط مجتمع تعددي وديمقراطي تتسع فيه دائرة الثقافة الحقوقية و المدنية.
لا تقف مهامنا في هذا المؤتمر على إعلان المبادئ العامة التي تجمعنا و تحيين أولوياتنا و مهامنا في ضوء إستحقاقات المرحلة التاريخية بل لابد أن ندرك الحاجة إلى وضع الآليات و وسائل العمل والخطط التي تنقلنا من التصورات إلى الفاعلية الميدانية وفي هذا المستوي تحتاج منظمتنا إلى خطط تنفيذية متعددة تشبب هياكلها وتعيد تنظيم سياستها الإتصالية وتقوي دورها على المستوى المحلي وباتجاه بناء الشبكات المواطنية والمدنية الواسعة .

دون مزيد من الحضور الميداني جهويا ووطنيا ودوليا في كل المعارك الحقوقية برؤية واضحة ونظرة حقوقية مستقلة تبتعد عن الاحزاب والتوظيف الفج، سيتواصل تضاؤل دور الرابطة وينطفئ اشعاعها تدريجيا كي تصبح مجرد ذكرى لماضيها النضالي ، بل و الاسواء أن تتحوّل الى فضاء خلفي لصراعات حزبية وسياسية تقودها اطراف لا تتقن البناء بقدر مهارتها في التخريب ولا تسعى الى العمل المشترك بقدر سعيها الى منطق المثل الشعبي «نلعب وحدي وإلا نحرّم.» ولنا في تاريخ الرابطة القريب والبعيد عبرة.

مسعود الرمضاني

نائب رئيس الرابطة، مكلف بالعلاقات الخارجية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115