وخرجوا للتعبير عن مطلبهم وهو بناء سلطة قضائية مستقلة لا سلطان عليها سوى القانون. مسار انطلق منذ 2011 بتهيئة الأرضية التشريعية الملائمة للبناء. اليوم وبعد مرور ست سنوات على ثورة الحرية والكرامة والاستقلالية يطرح السؤال «ما الذي تحقق للقضاء التونسي؟».
مرفق العدالة يشمل القضاة والمحامين والمتقاضين وغياب طرف أو نقص في شيء ما من المؤكد انه سيؤثر على حسن سير ذلك المرفق والمتضرر بالدرجة الأولى هو المتقاضي الذي كان و ربما لا يزال أمله أن يتم إصلاح القضاء لضمان حقوقه وأهمها المحاكمة العادلة.
مسار متعثر منذ البداية
المجلس الأعلى للقضاء الذي سيخلف الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي انطلق مسار التأسيس له منذ 2014 عندما اقترح مشروع قانون في الغرض ووضع على طاولة النقاش ومن هناك انطلقت رحلة العثرات والثغرات والتعطيلات لعدة أسباب فالكل يريد أن يأخذ نصيبه من هذه الكعكة التي أمل الجميع أن من أهم مكوناتها الديمقراطية والاستقلالية والعدالة. النتيجة كانت مشهدا من الاحتقان والغضب خاصة من قبل جمعية القضاة التونسيين التي تحركت قبل وبعد المصادقة على مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء.
قانون تم الطعن فيه في مناسبتين أمام الهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين التي قبلت الطعن وألزمت لجنة التشريع العام بتعديل بعض الفصول لوجود خلل على مستوى المضمون أما الطعن الثاني فهو على المستوى الإجرائي وبعد أن تعذر على الهيئة البت في المسألة أحالتها على رئاسة الجمهورية التي حسمت الأمر بختم القانون ليصبح نافذا وفاعلا وبمرور الوقت انطفأت نار الاحتقان والغضب وانهمك الجميع في المطالبة بالمرور إلى مرحلة تطبيق القانون والاقتناع بان استقلالية القاضي ونزاهته وحياده لا يصنعها القانون.
بعد أكثر من سنة تمت المصادقة على القانون ونشره بالرائد الرسمي ثم انطلقت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في الإعداد للعملية الانتخابية بخصوص المجلس الأعلى للقضاء ليتوجه القضاة يوم 23 اكتوبر 2016 إلى صناديق الاقتراع للتعبير عن مواقفهم واختيار من يمثلهم في هذا الهيكل الذي طال انتظاره وكلهم أمل في بناء أولى لبنات سلطة قضائية مستقلة ولكن ما إن أفصح عن النتائج الأولية للتركيبة حتى أطلق العنان للاتهامات والانتقادات على عدة مستويات فجمعية القضاة مثلا عبرت عن استيائها واستنكارها لفوز القاضي خالد عباس وهو من وصفته بقائد ما يسمى بانقلاب 2005 ولكن رغم ذلك خيرت الصمت قانونا ولم تتوجه بطعن في التركيبة مثلها مثل بقية الهياكل. استكملت كل الإجراءات القانونية إذ نظرت المحكمة الإدارية في الطعون المقدمة من قبل عدد من المحامين من بين المترشحين ولم يحالفهم الحظ في الفوز لتقوم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالإعلان عن النتائج النهائية لتنطلق مرحلة أخرى من الصراع.
مولود جديد وانشقاق في الهياكل
بوادر الانشقاق في حقيقة الأمر كانت شبه واضحة منذ الإعلان عن النتائج فجمعية القضاة الوحيدة التي عبرت عن احترازها مقابل إجماع بقية الهياكل من نقابة واتحاد القضاة الإداريين وجمعية القضاة الشبان واتحاد قضاة محكمة المحاسبات على ضرورة احترام ما أسفرت عنه نتائج الاقتراع واختيارات زملائهم لتتعمق الهوة بين الطرفين والأمور في طريقها إلى «برّالأمان». رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي انذاك خالد العياري هو المخول الوحيد قانونا لدعوة المجلس الأعلى للقضاء للانعقاد في أولى جلساته لاختيار رئيسه ،تزامن ذلك مع استعداد العياري للتقاعد وقبل أسبوعين تقريبا من ذلك وجه مجلس الهيئة مراسلة تتعلق بقرارات ترشيح لسد عدد من الشغورات في خطط عليا لاكسائها الصبغة القانونية حتى يتسنى لخالد العياري دعوة المجلس إلى الانعقاد. أمر استساغته جمعية القضاة ووصفته بالقانوني لم يرق لبقية الهياكل الذين اعتبروا أن مهام الهيئة انتهت وهددوا بالتصعيد في صورة إمضاء تلك القرارات. نتج عن كل هذه الخلافات والصراعات الداخلية حرب بيانات إلى أن انتفت على خالد العياري صفة رئيس للهيئة دون القيام بالمهمة المنوطة
بعهدته ومن هنا دخل المجلس الأعلى للقضاء في منعرج جديد ومأزق قانوني ووجد يوسف الشاهد نفسه بين المطرقة والسندان لترسو السفينة على قرار أداء اليمين يوم 14 ديسمبر الجاري وهو اليوم الأخير في آجال الدعوة والمحددة بشهر منذ الإعلان عن النتائج النهائية كما اتفق الأعضاء منذ اليوم الموالي بأن يدعو ثلثهم المجلس إلى الانعقاد بعد رفض مجلس الهيئة تكليف نائب الرئيس بالمهمة لأن القانون لم ينص على ذلك . هذا المنهج أيضا لم يرض جمعية القضاة التي قررت التحرك الاحتجاجي تعبيرا عن رفضها. مشهد جديد من الصراع ولكن هذه المرة ليس السلطة التنفيذية أو التشريعية مع القضاء وإنما الهياكل القضائية فيما بينها مما وضع المجلس الأعلى للقضاء في الميزان وفتح باب التأويلات إلى أن هناك تسييسا للموضوع .
وضعية المحاكم «مزرية»
إصلاح المنظومة القضائية ليس فقط إرساء هياكل قضائية وسن قوانين وإنما يشمل أيضا إصلاح المحاكم والوضعية المزرية التي توجد عليها جل بنايات هذه المنشآت إن لم نقل كلها وخير مثال على ذلك المحكمة الابتدائية بتونس التي يمكن القول إنها آيلة للسقوط وأصبحت تشكل خطرا على مرتاديها من قضاة ومحامين ومتقاضين الذين أصبحت ملفاتهم متراكمة في كل مكان وفي كل زاوية،هذا المشهد تشترك فيه كل محاكم الجمهورية تقريبا وتتالت الحكومات وتعددت الزيارات لمعاينة الأوضاع عن قرب ولكن إلى اليوم وبعد مرور ست سنوات على الثورة لم نر نتائج مرموقة وملموسة بأتم معنى الكلمة ليبقى موضوع البنية التحتية للمحاكم مطروحا.
قطبان قضائيان ولكن
من بين ما يمكن ذكره والقول انه تحقق للقضاء هو إنشاء قطبين قضائيين الأول مختص في ملفات الفساد والثاني في ملفات ذات الصبغة الإرهابية ولكن رغم أهميتهما إلا أن القضاة العاملين بهما يشتكون من عديد النقائص التي تم تفادي البعض منها كسن قانون للقطب المالي بعد أكثر من 4 سنوات على تركيزه أما قطب الإرهاب فلا يزال يعاني النقص على مستوى الإطار القضائي والإمكانيات اللوجستية مقابل تهاطل الملفات التي تعد بالآلاف. زيارات ووعود بالإصلاح والدعم من قبل الأطراف المعنية ولكن لا تزال إلى اليوم دار لقمان على حالها.
خلاصة ما يمكن ان نختم به هو ان «السلطة القضائية» لا تزال تتأرجح بين المؤقت والدائم.