في حين اعتبر ماريانو راخوي ، الوزير الأول الإسباني، أن «الاستفتاء لم يتم».
مشاهد العنف المسلط من قبل رجال الأمن على المواطنين الراغبين في المشاركة في الاستفتاء و الذين تجمهروا منذ ليلة الانتخابات أمام مراكز الاقتراع أو بداخلها عمت كل شاشات العالم مبرزة عزم ماريانو راخوي على استعمال العصا البوليسية ضد صناديق الاقتراع في بلد يعيش حالة من النظام الديمقراطي منذ أكثر من أربعين عاما بعد أن طوت اسبانيا صفحة دكتاتورية الجنرال فرانكو في سبعينيات القرن الماضي و توخت نظام الملكية الدستورية الديمقراطية.
أحداث العنف خلفت أكثر من تسعين جريحا بينهم 20 من رجال الأمن. و أعطت للعالم صورة واضحة على انقسام اسبانيا بين نزعات التحرر من السلطة المركزية وقوى التمسك بالوحدة الترابية للبلاد. بان من الواضح أن هذا الانقسام يشق جل الجهات و التنظيمات السياسية و الأهلية في اسبانيا و أن الممارسات الحكومية ، المنحصرة إلى الآن في استعمال العنف ضد إقليم كاتالونيا ، لن تسمح المجال إلى بوادر حل للأزمة الإسبانية.
الإنتصار للقانون
موقف الحكومة الكاتالونية و الحكومة المركزية ارتكز منذ البداية على الانتصار للقانون الإسباني المجسم في الدستور. فبينما اعتبر الانفصاليون أن تنظيم الاستفتاء يندرج في إطار الدستور الذي يعتبر كاتالونيا «أمة» مثل «الأمم» الأخرى التي تكون المملكة الإسبانية ، و التي تتمتع برقعة متكاملة من تراب المملكة، و أن للإقليم لغة و تاريخا و ثقافة محلية تمكنها من العيش في نظام جمهوري مستقل، فإن الحكومة المركزية اعتبرت، استنادا لحكم قضائي صادر عن المحكمة الدستورية وعن المحكمة العليا في كاتالونيا أن الاستفتاء باطل و غير قانوني.
في إطار هذا الصراع القانوني انتصر الاستقلاليون في فرض فكرة الاستقلال و ترسيخها في صفوف أهالي الإقليم أمام تعنت الحكومة الإسبانية على عدم طرح المسألة بصورة سياسية و الاكتفاء بالحل الأمني الذي يمكن من تجاوز المشكلة ظرفيا و لا يحلها على المدى البعيد. بل إن قرار كارلس بيغديمون، رئيس حكومة كاتالونيا، المناداة بإضراب عام ليوم الثلاثاء 3 أكتوبر يعتبر تحديا للسلطة المركزية و إصرارا على المضي قدما في عملية لي الذراع مع مدريد.
هزيمة ماريانو راخوي
تنظيم الاستفتاء و الإعلان على نتائجه تعتبر هزيمة ثقيلة للوزير الأول الإسباني الذي لم ينجح في منع مئات الآلاف من مواطني اسبانيا من التعبير عن رأيهم بالرغم من استخدام قوات الأمن الوطني و قمع الناخبين و المتظاهرين. و هزيمته أكبر لعدم تقديم أي بديل للشعب الإسباني يمكن من الخروج من الأزمة ، بعيدا عن رفض الاستفتاء و التمسك بالوحدة الترابية للمملكة. نداؤه لجولة من الحوار مع مختلف الأحزاب السياسية الإسبانية لدراسة الوضع لن تفضي إلى أي حل بسبب الانتقادات الحادة المتأتية من مختلف القوى السياسية الكبرى و في مقدمتها حزب «بوديموس» والحزب الاشتراكي اللذان لن يعطيا لماريانو راخوي فرصة أخرى بعد أن قبلا بالسماح له بتشكيل حكومة ائتلافية اثر الانتخابات التشريعية الأخيرة التي لم يفلح الحزب الشعبي في الفوز بها.
انقسام الرأي العام الإسباني و انقسام إقليم كاتالونيا حول الاستفتاء و طريقة التعامل معه من قبل الحكومة الإسبانية تضع ماريانو راخوي في موقف حرج، لعدم نجاحه في طي صفحة الاستفتاء. و تعالت بعض الأصوات في تشكيلات اليسار منادية الوزير الأول بالاستقالة. وهي نتيجة حتمية للصراعات السياسية الحادة التي هزت ولا تزال المجتمع الإسباني منذ عدة سنين و التي أفرزت صعود الانفصاليين الذين لا يرغبون في تواصل انتمائهم لإسبانيا الأم بسبب تفاقم فضائح الفساد في صلب الحزب الحاكم و عدم وفاء الحكومة بوعودها و باحترام تراتيب الحكم الذاتي المضمون دستوريا. و قد عبرت شخصيات عديدة في كاتالونيا عن اعتقادها بأن ما يحصل اليوم هو امتداد لمعارك قديمة اندلعت في الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي أين كانت كاتالونيا في مقدمة النضال ضد الفاشية و المطالبة بنظام جمهوري رفضه الجنرال فرانكو الذي أسس نظاما دكتاتوريا و قمع فيه كل الجمهوريين و في مقدمتهم أهالي كاتالونيا. و لا يخفي البعض خوفهم من تبني ماريانو راخوي آراء مناصري فرانكو داخل الحزب الجمهوري الحاكم على حساب مصلحة إسبانيا العليا.
إنتصار مشحون بالهزيمة
انتصار حكومة كاتالونيا النسبي في تنظيم الإستفتاء و تعنتها في الصمود أمام قرار حكومة مدريد بمنعه خلف طعما من الهزيمة لدى مناصري الاستقلال الذين وقفوا على محدودية تحدي السلطة المركزية و لو باستعمال طرق ديمقراطية سلمية. فخلافا لانفصاليي بلاد الباسك الذي اختاروا المقاومة المسلحة، و الذين خسروا المعركة التحررية بعد تصنيفهم بالحركة الإرهابية، خير انفصاليو كاتالونيا الصمود الديمقراطي السلمي و تعبئة الجماهير. لكن التعامل الديمقراطي، كما هو الشأن في البلدان الأوروبية الديمقراطية مثل بريطانيا و فرنسا و بلجيكا التي هي الأخرى لها انفصاليوها، يحتم التشاور و التفاوض للوصول إلى حل سلمي مثل ما قام به الوزير الأول البريطاني السابق دايفد كامرون في السماح لشعب اسكتلندا بالتعبير عن رأيه في شأن الانفصال عن بريطانيا العظمى.
لا يبقى اليوم أمام حكومة كاتالونيا سوى الصمود و المضي قدما نحو الصدام لأنها تبقى رهينة للقوى المتطرفة التي تسيطر على اتخاذ القرار في صلبها. و لو أن كاتالونيا تخضع للعمل الديمقراطي و فيها قوى ترفض الإستقلال قد عبرت عن رأيها في مظاهرات موازية و قد تتحرك للضغط على الحكومة الإقليمية لإرغامها على التفاوض مع مدريد.
هل من حل أوروبي؟
الموقف الأوروبي اتسم بالصمت إلى حد الساعة لأن بروكسل تعتبر الاستفتاء شأنا داخليا. من ناحية أخرى إذا عبرت المفوضية عن وجهة نظر في الموضوع فهي تقر سياسيا بشرعية الانفصاليين. و لا يمكن لها في هذا الإطار أن تلعب دورا وسيطا بين العاصمة و الإقليم. وضعية كاتالونيا ليست، بالنسبة للإتحاد الأوروبي، الحالة اليتيمة في أوروبا. فهنالك جهات أخرى تنادي بالإستقلال وبالإنفصال في بريطانيا و فرنسا و بلجيكا وإيطاليا. والإتحاد لا يريد الدخول في متاهات مسألة الحركات الانفصالية وهو يتخبط في انفصال بريطانيا العظمى و لم ينجح إلى اليوم في التوصل إلى اتفاق مبدئي حول أسس الإنفصال مع البريطانيين.
البعد الأخر الذي يعمق المسألة الانفصالية هو أن اسبانيا جزء لا يتجزأ من الإتحاد الأوروبي وهي كذلك عضو في منطقة اليورو وفي اتفاقية شنغان التي تضمن نزع الحدود وحرية التنقل للبشر والبضائع والأموال. وهي مسائل أساسية تعرقل موضوعيا انشقاق كاتالونيا عن اسبانيا. ففي حالة تم إقرار ذلك سوف يجد الإقليم نفسه خارج الإتحاد – وهو ما ترفضه الطبقة السياسية الكاتالونية المتمسكة بالإتحاد الأوروبي. تشعب الأمور السياسية والترتيبية في العلاقة مع الإتحاد الأوروبي يزيد من ضبابية الموقف ومن استشراف حل ممكن للأزمة الحالية دون أن تدخل كل الأطراف في مفاوضات نزيهة تلزمهم بتنازلات أليمة للحفاظ على مكاسب لا يمكن التمتع بها إلا في إطار العيش المشترك في صلب الإتحاد الأوروبي. وهي الطريق الصعبة التي تنتظر السياسيين في إسبانيا.