جاء هذا القرار المفاجئ كردة فعل لانتخاب فرنسوا فيون الساحق كمرشح لأحزاب اليمين و الوسط من جهة ومن جهة ثانية، لصعود حظوظ مرشح الجبهة الشعبية اليسارية جونلوك ميلونشون الذي تقدم على هولاند في كل عمليات سبر الآراء. وكان ذلك بمثابة ناقوس الخطر الذي ينبئ بإقصاء الحزب الإشتراكي من الخارطة السياسية الفرنسية.
إعترف فرنسوا هولاند، الذي ربط إعادة ترشحه بتحقيق تغيير في نسق خطة القضاء على البطالة، بأن سياساته لم تحقق ما كان يصبو إليه و لكنه حاول أن يلمع نتائج «الإصلاحات» الأخرى المتعلقة بالمحافظة على «الأنموذج الفرنسي» مع الاعتراف بأنه أخطأ في اقتراح مشروع تنقيح الدستور الخاص بنزع الجنسية عن حاملي الجنسيتين من الإرهابيين، و الذي أوشك أن يقسم الحزب الحاكم إلى فريقين متناحرين.
مسلسل الفضائح والخيانات
لم يشهد تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية ولاية رئاسية مثل تلك التي يقضيها فرنسوا هولاند. فقد تراكمت فيها الفضائح الجنسية على الإخفاقات الاقتصادية و الاجتماعية و المغامرات العسكرية و الهجمات الإرهابية الدامية. فمنذ دخوله قصر الإيليزي توالت الفضائح في محيطه القريب. فسرعان ما تحولت القبلة الرئاسية يوم الإنتخاب المتبادلة مع العشيقة الجديدة إلى عملية «تطليق» لفاليري ترايفيلير بعد أن كشفت الصحافة الرئيس هولاند وهو متنكر في خوذته و على دراجة نارية في طريقه الى منزل الممثلة جولي غاييه التي أخذت مكان فاليري في قلبه. و إن اعتبر جل الفرنسيين أنه حر في علاقاته الشخصية فإن استغلال الصحافة مسلسل العلاقات الجنسية الرئاسية من سيغولان روال أم أبنائه إلى فاليري ترارفيلير ثم جولي غاييه أحدث شرخا في المؤسسة الرئاسية.
و كان الرأي العام يشعر أن الرئيس هولاند يعتني بشؤونه الخاصة أكثر من مشاغل الشعب . لأن فرنسا تشكو من عديد المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية التي لم تجد حلا بالإجراءات المتخذة من قبل الحكومة الفرنسية.تلك الإجراءات كانت بالنسبة للفرنسيين، من اليمين واليسار، صدمة لما لها من جرأة وعزم. فقد ثارت حفيظة اليسار أولا بتوخي الحكومة نهجا ليبراليا بعيدا عن ثوابت اليسار التقليدية. وهو ما أدى إلى استقالة بعض الوزراء المعارضين للسياسة الليبرالية المتبعة وفي مقدمتهم أرنو مونتبور المرشح لرئاسية 2017.
و اعتبرت جل فصائل اليسار الفرنسي بما في ذلك النواب الاشتراكيون المنتفضون أنها «خيانة» للوعود الانتخابية التي تقدم بها فرنسوا هولاند في خطابه الشهير بمطار البورجيه. و زادت القضية تعقيدا بتغيير مجلة الشغل التي أغضبت النقابات و تسببت في تنظيم تسع مظاهرات مليونية ضد المشروع الحكومي نسفت ما تبقى للرئيس من مساندة لدى «شعب اليسار». ولم يحظ بعد ذلك هولاند إلا ب 10 % من المساندة حسب آخر استطلاع للرأي.
أما «شعب اليمين» فقد ثار ضد قانون «الزواج للجميع» الذي منح المثليين حق الزواج خلافا للتقاليد المسيحية التي تأسس عليها المجتمع الفرنسي. و نظمت فصائل عريضة من اليمين المحافظ عدة «مظاهرات للجميع» ردا على التوخي الليبرالي التحرري للحكومة الفرنسية في المسألة الأخلاقية. فأصبحت الحكومة بذلك عرضة لغضب ومعارضة تنظيمات اليمين و اليسار على حد سواء ولو لأسباب مختلفة.
محدودية الإستراتيجية ضد الإرهاب
استعاد الرئيس هولاند شيئا من شعبيته بدخوله حربا على الإرهاب في مالي ثم بتدخله في جمهورية إفريقيا الوسطى. لكنه بالرغم من تجنيد الطاقات و الجيوش لم يفلح إلى حد اليوم في حل الأزمة في باماكو وفي بانغي . فشعر جزء هام من الرأي العام الفرنسي أن التدخلات العسكرية الفرنسية في إفريقيا و الشرق الأوسط و تحالفه المعلن مع المملكة العربية السعودية، التي يعتبرها جزء هام من الرأي العام شريكا أساسيا في تفشي الإرهاب، هو غير طبيعي وهو وراء تفاقم الهجمات الإرهابية على فرنسا في عامي 2015 و 2016. و أصبح التراب الفرنسي بذلك مرتعا للحركات الجهادية التابعة لتنظيم داعش دون أن تتمكن الدولة من القضاء نهائيا على الأخطبوط الجهادي.
وبالرغم من إعادة هيكلة الجيوش الفرنسية المرابطة في إفريقيا فإنّ فرنسا لم تتمكن من القضاء على الإرهاب في الساحل الإفريقي. وقررت الحكومة ، بدون سابق إنذار، التخلي عن «عملية سرفال» في مالي في حين رجعت الحركات التكفيرية لمقاومة سلطة باماكو. ثم أخذ الرئيس هولاند قرار سحب قواته من جمهورية إفريقيا الوسطى دون التوصل إلى حل للأزمة الداخلية. و كان ذلك اعترافا ضمنيا بفشل الإستراتيجية العسكرية المتبعة منذ 2013.كل هذه المؤشرات عقدت مهمة فرنسوا هولاند الذي وعد بأخذ قرار في شأن ترشحه لولاية ثانية خلال شهر ديسمبر .
هزيمة برمي المنديل
أحد الأسباب الرئيسية الذي عجل باتخاذ قرار التنحي هو كتاب «لا يمكن للرئيس أن يقول ذلك» الذي نشره الصحفيان جيرار دافيه و فابريس لوهم من جريدة لوموند و الذي تعرض فيه فرنسوا هولاند إلى تفاصيل حياته السياسية كرئيس للجمهورية. و احتوى الكتاب على تصريحات و أسرار للرئيس هزت المجتمع السياسي و الرأي العام الفرنسي الذي «اكتشف» شخصية أخرى لفرنسوا هولاند مخالفة لشخصية الرئيس المنتخب. و تعددت التصريحات في صلب اليسار و حتى في الحزب الإشتراكي منددة بما جاء في الكتاب. و كان الوزير الأول مانويل فالس من جملة المنتقدين لأداء الرئيس. مما أحدث ارتباكا في أعلى هرم السلطة. و لم يخف مانويل فالس عزمه على تجهيز نفسه لخوض معركة الرئاسة «في حال قرر الرئيس عدم الترشح:.
و أصبحت بذلك إمكانية إقدام هولاند على الترشح لولاية ثانية فرضية صعبة خاصة بعد إعلان إمانويل ماكرون و سيلفيا بينال من حزب الخضر خوض المعركة الانتخابية دون المشاركة في الإنتخابات التمهيدية لليسار. لكن هولاند قام في الأسابيع الأخيرة، في نفس الوقت الذي تجري فيه الحملة الإنتخابية للدورة التمهيدية لليمين والوسط، بجولة في جل مناطق فرنسا كانت تشبه الحملة الانتخابية السابقة لأوانها. لكن نجاح فرنسوا فيون بالضربة القاضية على ألان جوبي وصعوده المذهل في المرتبة الأولى كأحسن مرشح لقصر الإيليزي و تفتت المساندة للرئيس من داخل عائلته الحزبية بتخلي وزير الدفاع جون إيفل ودريان و وزير المالية ميشال سابان عن مساندته أجبرت هولاند على رمي المنديل . هكذا يفتح المجال أمام مانويل فالس لدخول المعركة الانتخابية على قصر الإيليزي. لكن هل يتمكن فالس من لم شتات الحزب الحاكم المنقسم على أربعة فصائل ودخول المعركة الإنتخابية التمهيدية بأوراق ناجحة تمكنه من التوصل إلى ترجيح الكفة لفائدته؟ هذا ما ستجيب عنه الأسابيع القادمة.