على أقل تقدير، تطور أداء لغة الخطاب السياسي لدولة الامارات تجاه تركيا، حيث أبدى عبد الخالق عبدالله مستشار ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد انفتاح بلاده على التفاوض مع تركيا بشروط، بعد أن شهدت العلاقات بين البلدين توتراً على خلفية قضايا عدة، بينها الأزمات في سورية واليمن و ليبيا، و قضية علاقات الحكومة التركية مع جماعة “الإخوان المسلمين” التي تعاديها السلطات الإماراتية، بالإضافة الى محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا في منتصف عام 2016 واتهام الإمارات بالوقوف خلفها، ناهيك عن الملفات الإقليمية في العراق والصومال والسودان. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل يمكن أن تحصل مصالحة بين تركيا والامارات؟
رغم الأزمات السياسية المتلاحقة التي عصفت بين البلدين “تركيا، الإمارات” لم تتأثر العلاقات الاقتصادية بينهما، فقد بلغ حجم التبادل التجاري مع الإمارات في عام 2015 قرابة 7.9 مليار دولار، أما في 2017 فقد بلغ التبادل بقيمة 14.6 مليار دولار، أي بزيادة تقترب من الضعف، بينما بلغ التبادل في عام 2018 6.8 مليار دولار. وحسب بيانات “هيئة الإحصاء التركية”، فإن الإمارات تأتي ضمن أكبر 20 دولة على مؤشر الصادرات والواردات السلعية لتركيا، فقد احتلت المرتبة رقم 14 من حيث الدول المستقبلة للصادرات التركية، و المرتبة 13 من حيث الواردات التركية، وتُعد الإمارات الدولة العربية الوحيدة التي تضمها قائمة أكبر 20 دولة تستورد منها تركيا.
ولأن السياسة الدولية لا تعرف إلا لغة المصالح وجدت الامارات أن مصلحتها تكمن في التوافق مع تركيا وإن اتخاذ مواقف عدائية معها لا يحقق أهدافها ومصالحها، ومن هذا المنطلق وضعت الإمارات عدة شروط للمصالحة مع تركيا ورئيسها المغامر أردوغان ، وأهم هذه الشروط: إنهاء احتلال سورية والعراق، وسحب مرتزقته من ليبيا، بالإضافة الى وقف احتضان جماعة الإخوان، وسحب قواته من الخليج ، فضلاً عن إعادة النظر في خططه العثمانية التوسعية. وقد جاء ذلك تزامناً وتصريحات وزير الخارجية التركي أوغلو، التي أكد فيها أن بلاده مستعدة لتحسين العلاقات مع السعودية والإمارات، بقوله ” بالنسبة لنا لا يوجد أي سبب يمنع تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية “، وعن العلاقة مع الإمارات أكد الوزير التركي أن بلاده ترى “رسائل أكثر إيجابية من أبوظبي، وتراجع الحملات السلبية ضد تركيا”.
ويبدو أن الإمارات تحاول أن تستعيد إحكام ـ من وجهة نظرها ـ قبضتها على الإقليم وأن تكون في الصدارة ولهذا تسعى بخطوات متسارعة ألا يفوتها قطار المصالحات في المنطقة، خصوصاً بعد أن اتخذت السعودية خطوة المصالحة بصورة منفردة، لذلك كانت أمام الامارات فرصة إعادة ضبط علاقاتها مع تركيا على محددات واضحة مبنية على التعاون الإيجابي.
في المقابل تمسك تركيا بهذه الفرصة لوجود توجهات سياسية تركية على أعلى مستوى نحو استعادة علاقاتها الخارجية وتصفير المشاكل من جديد، فالتطورات العسكرية والسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط تفيد بعدم وجود أي منتصر، لذلك حجزت تركيا وحلفاؤها طاولة في التفاوض حول مصير قضايا المنطقة، ومع سعى تركيا إلى التفاوض حول القضايا الخلافية مع منافسيها بعد أن قوَّت موقفها في قضايا مثل الخلاف مع اليونان ومصر وليبيا، يبدو أن الإمارات تريد أن تحجز مقعداً على الطاولة لإعادة ترتيب المنطقة بعد فشل الرهان على الحرب.
ومما سبق أرى أن هناك ثلاثة سيناريوهات مستقبلية للعلاقات التركية الاماراتية تتراوح بين الصراع والتهدئة، وهي متداخلة ومتشابكة الى حد بعيد، بناءً على مدى تأثرها بمتغيرات البيئة العربية والاقليمية والدولية وتتمثل بالآتي:
السيناريو الأول : تعاوني وتوافقي، سيعزز العلاقات بين الطرفين عن طريق إيجاد حلول واقعية لكل الخلافات والمشاكل العالقة بينهما، والسيناريو الثاني: استمرار الفتور في العلاقات التركية الاماراتية، وبالتالي سيغلب الاتجاه الصراعي القائم حالياً، إذ أن هذا السيناريو مرتبط باستمرار حالة الخلل في التوزان على كافة المستويات الاقليمية والدولية، أما السيناريو الثالث فهو وسطي يقع بين السيناريوهين السابقين، فقد يكون تعاونياً أحياناً وصراعياً أحياناً أخرى، وفي ظل هذا السيناريو ستكون العلاقة بينهما قائمة على الشك والريبة ويميل الى التهدئة في أغلب الأحيان.
إجمالاً خسرت تركيا أهم أهداف مشروعها التخريبي في المنطقة وخاصة في سورية، وأمام هذه المعطيات، يبدو أن تركيا أمام خيارات صعبة وضعتها بنفسها، فهي تلعب بالنار، وإنطلاقاً من ذلك يمكنني التساؤل هل بدأت تركيا بدفع الثمن كونها طرفاً أساسياً في الأزمة السورية؟، فالمأمول هنا آن تدرك أنقرة حجم المغامرة التي يدفعها الأمريكي نحوها، وأن تبادر بمراجعة حساباتها، وتجنب التورط بقدر الإمكان في المستنقع السوري، وأن تسارع بخطوات تنفيذ شروط الوزير الاماراتي وهي إنهاء احتلال سوريا و الانسحاب منها فوراً خاصة بعد الصمود الذي سطّره جيشها في الشمال السوري.