قانون قيصر وضرورة إعادة بناء النظام الإقليمي العربي

توفيق المديني
تريد الولايات المتحدة من استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية المنصوص عليها في قانون قيصرأن تنقلَ الصراع، من مستوى الحرب العسكرية والديبلوماسية

التي انتصرت فيها الدولة الوطنية السورية، إلى مستوى الحرب الاقتصادية، من أجل تغيير سلوك النظام السوري وتوجهاته حسب قولها وذلك من خلال ضرب مفاصل اقتصاد الدولة الوطنية السورية، عبر استهداف المرتكزات والموارد المالية لها،ولا سيما البنك المركزي السوري، وكذلك الكيانات والشبكات المرتبطة به، ووضع قيود على عمليات التبادل الاقتصادي والتجاري بين الحكومة السورية وحلفائها وداعميها الإقليميين والدوليين،(إيران وروسيا)عبر استهداف طرق إمدادها بالأموال والمعدّات، كل هذه الإجراءات العقابية، تستهدف في جوهرها،وفق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، ممارسة مزيد من الضغط على نظام الرئيس بشار الأسد، لمنع تسويق انتصاره العسكري في سورية، وإجباره للبحث عن تسوية سياسية مع المعارضة السورية المرتمية في أحضان أمريكا وتركيا والمملكة السعودية، وقبوله الشروط الأمريكية-الإسرائيلية، وفي القلب منها تصفية الصراع العربي-الصهيوني، وبالتالي دفن القضية الفلسطينية.

سعر صرف الدولار كوسيلة للنهب والسرقة
نعيش اليوم في عالم إمبراطوري. إنها امبراطورية واحدة وتدعى PaxAmericana»باكس أمريكانا، أو «تسوية واشنطن» إذ تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأسها. وقد تشكلت هذه الإمبراطورية تدريجيًا. فقد كانت واشنطن قد أعلنت منذ القرن التاسع عشر عما عرف «بمبدأ مونرو» وجوهره بسيط للغاية: إنّ أمريكا (مجمل نصف الكرة الغربي) هي للأمريكيين. بالطبع ، المقصود هو أنّ القارة الأمريكية ليست للهنود الحمر ولا للمكسيكيين «التتشيكانو»، وإنّما لرأس المال الأمريكي الشمالي الذي انطلق يبحث قائلاً: إنّ العولمة هي عملية تقدم المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم.

تقوم أمريكا باستخدام الدولار في التسويات والتعاملات المالية مع معظم بلدان العالم، ويحتل الدولار موقعًا احتكارياً في السوق العالمية للعملة الصعبة. إنَّ ميزة إصدارعملة وطنية تقوم في الوقت عينه بوظيفة أداة في التعاملات و الحسابات الدولية، تمنح الْبَلَد الْمُصْدِر(الولايات المتحدة الأمريكية هنا) فرصة لتسديد ثمن السلع والخدمات التي تحصل عليها من البلدان الأخرى «بمنتوج آلة النسخ أو الطباعة» الأمريكية، الوحيدة في كل العالم التي تمتلك الحق المطلق على طباعة الدولارات من دون أن يكون لها أي تغطية.

إنَّ استخدام الدولارات الأمريكية غير المدعومة بأي شيء، هو بكل بساطة نهب حقيقي تمارسه أمريكا بحق البلدان الأخرى التي تدخل بصفة «ولايات أوأقاليم» في تركيبة «باكس أمريكانا». وما هذه الدولارات سوى ورقة التين التي تحجب تلك اللوحة الصريحة لعملية النهب البشعة. وفي مقابل ذلك نجد أنَّ البلدان الأخرى، ومن أجل شراء منتجات و خدمات، من الغرب (أمريكا وأوروبا)،تكون مضطرة لتأمين العملة الصعبة من دولارات أمريكية،ويورو، وذلك عن طريق بيع مواردها الطبيعية أو سلعا أخرى في السوق العالمية مسبقًا(وبأسعار رخيصة عادة).

وكانت أمريكا ولا تزال تعاقب بقسوة أولئك الذين يحاولون التخلي عن نعيم «النقد الأجنبي بالدولار» كوسيلة في التعاملات والتسويات، وكأداة لمراكمة الاحتياطي بالعملة الصعبة. فحين أعلن الرئيس صدام حسين أنه سوف يتوقف عن بيع النفط بالدولار الأمريكي، وأنَّه سوف ينتقل لتسعيره باليورو، ما كان من واشنطن إلا أنْ أعلنتْ الحرب لإسقاط نظامه ، بل وقامت بأعدامه ليكون مثالاً و تحذيرًا للرؤساء و الملوك ورؤساء الحكومات الأخرى.

ولما أعلنت الصين أنًها لن تقوم لاحقًا بمراكمة الدولارات في احتياطها من العملة الأجنبية، وإذا بواشنطن تهدّد بأنها سوف تفرض رسومًا جمركية وغراماتٍ على البضائع والسلع المستوردة من الصين،كما تقوم بدعم الانفصاليين من التيبت، وتفعل وتقوي علاقاتها مع تايوان.

في واقع سوريا كانت قوة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب (أمريكاوالاتحاد الأوروبي)على الحكومة السورية وحلفائها وداعميها،الدوليين والإقليميين(روسيا وإيران )،إضافة إلى تفعيل «قانون قيصر» (الذي دخل حيزالتطبيق يوم،17 جوان الجاري) كافية لتدمير الليرة السورية التي شهدت تراجعاً حادّاً في قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، علاوة عن حجم خسائر الاقتصاد السوري 540 ملياردولار، مع 40% نسبة دمار في البنية التحتية، كما بلغت نسبة البطالة 42.3%، وبالنسبة إلى الدَين العام فقد بلغ 208% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.

إضافة إلى ذلك الانهيار الحالي في سعر الصرف ما هو إلا حلقة في سلسلة بدأت مع أزمة المصارف اللبنانية، والتي قيدت حجم السحب من القطع الأجنبي لزبائنها، ومنهم السوريون الذين تبلغ ودائعهم في المصارف اللبنانية 45 مليار دولار، ما دفع إلى زيادة الطلب داخل السوق السوري لتمويل الاستيراد، وبالتالي ارتفاع سعر صرف الدولار في سورية كونه أصبح سلعةً تخضع لقانون السوق، بعيداً عن المؤشرات الاقتصادية.

وبشكل عام، فإنَّ البنوك المركزية في البلدان الهامشية في النظام الرأسمالي العالمي، تقوم بشراء محموم للدولار، ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع في سعر الدولار مقابل العملة الوطنية، إذ تعمل البنوك المركزية في بلدان محيط الرأسمالية العالمية، في حقيقة الأمر ضد مصالح بلدانها وتقوم بخدمة مصالح بلدان العالم الغربي، ويمكن أن نطلق عليها من دون مبالغة، اسم»فروع للبنك الاحتياطي الفدرالي للولايات المتحدة».

وقد أشار أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله في خطابه الأخيرإلى هذا الموضوع ، حين قال:» إن الطلب على الدولار سببه كثرة الطلب وقلة العرض، متهماً الإدارة الأمريكية بمنع إرسال الدولار إلى لبنان وممارسة ضغوط عبر سفيرتها في بيروت، دوروثي شيه، على البنك المركزي لعدم ضخّ الدولار في السوق، بزعم أنّ هذه العملة يرسلها الحزب إلى سورية.

تأثير قانون قيصر على روسيا و إيران
يؤكد الخبراء و المحللون أن قانون قيصر الأمريكي ستكون له تداعيات أيضا على روسيا، باعتبارها الحليفة الدولية الأولى للدولة الوطنية السورية، مما يجعلها تبحث عن تسوية سياسية للأزمة السورية مع الأطراف الإقليمية (تركيا) و الدولية (الولايات المتحدة) من أجل عدم تبديد انتصارها العسكري ، والمحافظة على مصالحها الاقتصادية في مجال إعادة الإعمار، ومصالحها الجيوسياسية في سورية.

ولا شك أنَّ روسيا تحاول أن تحدّ من التداعيات الخطيرة لقانون قيصر، لأنها هي ذاتها تعاني من أزمة اقتصادية بسبب تأثيرات فيروس كورونا وتراجع أسعار النفط والغاز. كما أن القانون يستهدف للمرة الأولى كل من يتعامل مع كيانات روسية وإيرانية في سورية، ما يؤثر سلباً على عمل الشركات الروسية العاملة في سوريا، وسعيها لتحقيق مكاسب اقتصادية من المشاريع التي حصلت عليها من الدولة السورية مقابل الدعم السياسي والعسكري.

وفي مجال البحث عن حل للأزمة السورية ستعمل على إعادة تفعيل مسار أستانة ، لردم الهوة بين موقفي تركيا و إيران على الصعيد الإقليمي، مع إمكانية تقديم تنازلات ملموسة للجانب التركي في ليبيا، مقابل إقناعه بالتعاون في الملف السوري وتأمين الاستقرار في شمال البلاد. ودولياً يمكن أن تكثف موسكو جهودها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والاتحاد

الأوروبي، والسعي لتخفيف شروط رفع العقوبات المفروضة بمقتضى قانون قيصر.

كما يستهدف قانون قيصر الحليف الإقليمي للدولة الوطنية السورية، ألا وهم إيران ،وأذرع إيران في المنطقة، وأبرزها «حزب الله» اللبناني، و النفوذ الإقليمي الإيراني في المنطقة ، وتحديدًا في سوريا ،التي تحظى بثقل استراتيجي في الحسابات الإيرانية الإقليمية. ففي إطار محاولات البحث عن مخارج للحدّ من تأثير هذا القانون ،الذي استخدمته واشنطن في إطار الصراع الأمريكي-الإيراني ، ضدّ طهران منذ أكثر من عامين بعد انسحابها من الاتفاق النووي، أي العقوبات أو «الحرب الاقتصادية الشعواء»، حسب التسمية الإيرانية، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بزيارة سريعة إلى تركيا، ومن ثمّ إلى روسيا أخيراً، وذلك بحثاً عن روادع في مواجهة القانون، سواء في إطار عملية «أستانة» المتعلقة بسوريا، أو في سياق التنسيق مع روسيا، المعنية هي الأخرى بالقانون.

وفي ختام اللقاء بين وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف وإيران محمد جواد ظريف، في موسكو، الثلاثاء الماضي، أكد الوزيران أنَّ الجهود متواصلة لعقد قمة افتراضية بين الزعماء في أقرب وقت لبحث الأوضاع في سورية، على أن تتبعها قمة مباشرة في طهران قبل موعد انعقاد الجلسة المقبلة للجنة الدستورية.
وبدا واضحاً أنَّ الطرفين يسعيان إلى جذب أنقرة عبر تقديم تنازلات في الملف الليبي. وفي مؤتمر صحافي مشترك، أشار ظريف إلى أنَّ إيران تتشارك وجهات نظر مع تركيا بشأن سبل حل الأزمة الليبية. وردّاً على سؤال حول إمكانية نقل تجربة التعاون في سورية إلى ليبيا، أكد لافروف هذا الاحتمال. وقال «ممكن بالتأكيد. لدينا تنسيق جيد في سورية، وهي تجربة مهمة، والمهم أن يكون المدخل قائماً، كما في سورية، على وقف النار، ودعوة كل الأطراف للجلوس حول طاولة الحوار وفقاً للقرارات الدولية».

بناء نظام إقليمي جديد
إنَّ إعادة بناء نظام إقليمي جديد بين الدول الآتي ذكرها، سوريا و العراق ولبنان،وإيران،أصبح يشكل ضرورة إقليمية ودولية محورية، لتحقيق الأمور التالية:

أولاً:ا لتحرُّر من سيطرة الدولار في المعاملات التجارية و الاقتصادية بين الدول ،وتخطي قانون قيصر الأمريكي عبر نظام حل قضايا التبادل أي تداول السلع أو الخدمات (أو الإثنين معاً) في السوق أو المنطقة الجغرافية المعينة ،من خلال نظام المقايضة : وهو تداول (تبادل) سلع وخدمات بأخرى يتماثلان في القيمة وإن إختلفا في طريقة الإستعمال (المنافع( وبما يحقق فائض للطرفين.

ثانيًا:إعادة رسم المشهد الجيوستراتيجي في الشرق الاوسط على المدى المنظور،إن كان ذلك على المستوى الداخلي في هذا البلد او ذاك، أو على مستوى العلاقات العابرة لـ «حدود سايكس-بيكو» التي تزداد هشاشة يوماً بعد يوم.و باتت إيران قوة إقليمية معترف بها من قبل العالم ، من دون أن يعني ذلك أنَّ إيران أصبحت قادرة أن تقود النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بمفردها. فإذا أرادت إيران أن تلعب دور القائد في النظام الإقليمي الجديد قيد التشكل في الشرق الأوسط، فإنَّ هذا يتطلب منها أن تمتلك مجموعة من المقومات لكي تقوم بهذا الأداء ، و يكون مقبولاً إقليمياً و دولياً.
والواقع أن النظام الإقليمي العربي، كان فاعلاً ومتصادماً إلى هذا الحدِّ أوْ ذَاكِ مع الإمبريالية الغربية والعدو الصهيوني، ومشاركاً في التفاعلات العالمية بدرجات متفاوتة، لجهة المواجهة، وتحسين شروط العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن أسيراً،أو موضوعاً لتفاعلات وانعكاسات النظام العالمي، إلا حين ارتبط بنيوياً سياسياً،واقتصادياً، واستراتيجياً، مع النظام الرأسمالي العالمي، وسيطر خط التسوية الاستسلامي على صعيد السياسة الرسمية العربية.

في حقيقة الأمور، تبدلت الخريطة السياسية للعالم العربي تبدلاً جذرياً، بعد هزيمة المشروع القومي العربي التحرري، ووصول النظام الإقليمي العربي إلى قاع البئر، وبعد أن اجتازت الأنظمة الرجعية العربية أزمة الملحمة القومية العربية الناصرية والبعثية ،والجذرية اليسارية الماركسية،وبعد أن تم إلغاء التمييز بين اليسارواليمين على صعيد الوطنية العربية، لجهة الانزلاق السياسي العام باتجاه اليمين العربي المحافظ و الرجعي.

إِنَّ عَوَامِلَ الْاِنْحِدَارِ لِلنِّظَامِ الْإِقْلِيمِيِّ الْعَرَبِيِّ وَالتَّغَيُّرَاتِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي ظِلِّ تَرَاجُعَاتِ الْحَرَكَةِ الْقَوْمِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، تَمَثَّلَتْ فِي سَيْطَرَةِ مَفَاهِيمَ النَّقَائِضِ الإيديولوجيةِ، لِلْوَحْدَةِ، وَالْاِشْتِرَاكِيَّةِ، وَالتَّحْرِيرِ،الَّتِي كَانَتْ تَشَكُّلُ الطَّاقَة الثَّوْرِيَّة لِلْخِطَابِ الْقَوْمِيِّ فِي حَرْبِ أُكْتُوبرِ الْمَجِيدَةِ، لِكَيْ تُهَيْمِنَ إيديولوجية الْإِرْهَابِ وَالتَّكْفيرِ، وَالصِّرَاعَاتِ الْمَذْهَبِيَّةِ وَ الطَّائِفِيَّةِ، الَّتِي تَسْتَهْدِفُ تَمْزيقَ الدُّوَلِ الْوَطَنِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَقْسِيمَهَا مذهبيًا وعرقيًا، وبالتالي تَحْقِيقَ التَّصْفِيَةِ الْكَامِلَةِ لِلْقَضِيَّةِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ، فِي زَمَنٍ مَا بَاتَ يُعْرَفُ فِي الْخِطَابِ الرَّسْمِيِّ الْأَمْرِيكِيِّ ب صَفْقَةَ الْقَرْنِ».

على العرب أن يعترفوا بخطورة المشروع الأمريكي-الصهيوني في المنطقة وأهدافه التي تتكشف كل يوم من تفكيك دول المنطقة وعزلها وتقسيمها، وضم الضفة الغربية.ومنذ هزيمة المشروع القومي التحرري،انكفأت الدول العربية كل منها على ذاتها،وظهرت تيارات انعزالية تسيطر على تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وأسهم في ذلك ما يسمى بالعولمة التي ترمي في مصالح المخطط الأمريكي -الصهيوني،أبرزها المصالحة مع الكيان الصهيوني ،بحيث تحول التطبيع إلى أنَّ بعض الدول العربية أصبحت تابعة لإسرائيل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115