أن هدد جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، بعد محاولة الانقلاب في جويلية 2016، بعد موجة الإيقافات والاعتقالات، بطرد تركيا من الحلف الأطلسي “في حالة عدم احترامها للديمقراطية”. مواقف متشابهة أدت بعديد الخبراء وبوسائل الإعلام الغربية إلى التكهن بخروج تركيا من الحلف الأطلسي التي التحقت به عام 1952.
في الواقع ، لم تندلع الأزمة بين تركيا و الحلف الأطلسي مع محاولة الانقلاب التي جدت في جويلية 2016. بل إن مؤشرات عديدة تدل على أن التراجع الغربي في الملف السوري، وخاصة الموقف الأمريكي المفصلي فيه، جعل أنقرا تفكر في الخروج من وضع التبعية التي أصبحت عليها في خصوص التوازنات الإقليمية. و لم تقتنع تركيا بسياسة التقارب مع النظام السوري خاصة مع تنامي الدور الكردي على الأراضي السورية والعراقية في الحرب على تنظيم«داعش» الإرهابي.
المفاتيح التركية
بالنسبة للحلف الأطلسي شكلت تركيا على مدى عقود قاعدة صلبة في إستراتيجية الحلف زمن الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفياتي وهمزة وصل أساسية مع مشاكل الشرق الأوسط. واعتبرت أنقرا في هذا الصدد أن لها مفاتيح المنطقة وفي مقدمتها المسألة السورية التي انخرط فيها نظام رجب طيب أردوغان «الإسلامي المحافظ»، كما تقدمه العواصم الأوروبية.
تتلخص هذه المفاتيح في مساحة الحدود المشتركة مع سوريا على طول 900 كم و مسالك تهريب السلاح و الأموال و شبكة تجنيد وتدريب المقاتلين مع احتضان الائتلاف السوري المعارض لبشار الأسد في إسطنبول و حصوله على ولاءات عريضة داخله. هذا و تشكل تركيا ، من حيث عدد الجنود، ثاني قوة عسكرية لدول الحلف الأطلسي بعد الولايات المتحدة. وإن استخدم الحلف الأطلسي في حروبه على العراق وسوريا جزءا هاما من هذه القدرات، وخاصة قاعدة انشيرليك ومركز القيادة الأطلسي بقاعدة إزمير فإن الاختلافات
الإستراتيجية طافت على السطح في عديد المناسبات وآخرها في قمة الحلف الأطلسي بفرسوفيا (8 و9 جويلية 2016) التي قررت استكمال النظام المضاد للصواريخ على الأراضي الأوروبية. علما أن الحلف الأطلسي ركز في تركيا شبكة الرادارات التابعة لهذا النظام.
التوازن الهش الحاصل على الميدان مع موقف الولايات المتحدة الرامي الى الإبقاء على النظام السوري ، خلافا للإرادة التركية و الفرنسية، وتثبيت الحصار على روسيا بصورة غير عدائية انطلاقا من الأراضي التركية ، انهار مع إسقاط طائرة سوخوي الروسية من قبل تركيا يوم 24 نوفمبر 2015. وأشار بعض المحللين العسكريين أن تركيا أرادت بهذه العملية الضغط على الحلف الأطلسي لمساندتها في مساعيها في سوريا و التي تتعارض مع التحركات العسكرية الروسية . ولم تستحسن الولايات المتحدة هذا الحادث الذي يربك جهودها لتنفيذ الحصار على روسيا ولم تبالغ في مساندتها لأنقرة. فوجدت تركيا نفسها في مأزق بين حليف تاريخي يعمل ضد مصالحها القومية و خصم يقوض كل مسالك التهريب التي تنتعش منه أجهزة الدولة.
الرد الأطلسي على السياسة التركية
الواضح من الموقف التركي الأخير ومن الإجراءات المتخذة من قبل أردوغان الذي اعتذر عن حادث إسقاط الطائرة الروسية أن ليس لتركيا فائدة بفتح حرب مع روسيا بقدر ما هي حريصة على منع أي نشأة لكيان كردي مستقل على الأراضي السورية. في المقابل تعمل الدول الغربية على الاعتماد على المقاتلين الأكراد في العراق وفي سوريا في حربهم على تنظيم «داعش»الارهابي، في غياب قوة عسكرية تابعة لهم . وهو ما يهدد مباشرة مصالح نظام أردوغان .
في الحرب على سوريا استخدمت تركيا، بموافقتها، من قبل الحلف الأطلسي كبوابة أساسية لتسليح المقاتلين ومدهم بالعتاد البشري والمالي عبر المسالك التي تحرسها القوات الخاصة التركية. وتمكنت وكالة المخابرات الأمريكية، حسب تقرير نشرته جريدة نيويورك تامز، من تنظيم مسالك التهريب وتدريب المقاتلين على الأراضي التركية ومد الأسلحة لمقاتلي جبهة النصرة والجبهة الإسلامية. لكن تغيير الموقف الأمريكي من النظام السوري، المرتبط بتوقيع الاتفاق مع إيران، صاحبه تغيير في الخطاب تجاه تركيا. فكانت قيادات الحلف الأطلسي تخشى من انضمام تركيا الى التحالف الروسي الإيراني بالرغم من حادثة إسقاط الطائرة لما لها من مصالح اقتصادية مشتركة مع النظامين.
فقد أوكل الحلف الأطلسي الى ألمانيا دور انتقاد تركيا على لسان وزيرها للداخلية طوماس دي مازيار الذي أعلن لقناة أر بي بي الألمانية ، استنادا الى تقرير داخلي لوزارته، شهرا بعد محاولة الانقلاب، أن تركيا لها مسؤولية في» تسليح المجموعات الإسلامية في الشرق الأوسط». وانتقد قربها الإيديولوجي من حزب الله و حركة حماس و حركة الإخوان المسلمين والقوات المسلحة الإسلامية في سوريا. وهو ما أغضب السلطات التركية التي لم تتأخر من قبل في التنديد بموقف البوندستاغ الألماني و البرلمان الفرنسي اللذين اعترفا بمسؤولية أنقرا في «الإبادة العرقية للأرمن».
إثر ذلك سربت عديد الأوساط التركية، بصفة غير رسمية، مخاوفها من أن محاولة الانقلاب اندلعت بعلم من الولايات المتحدة التي لم تعلم حليفها التركي بذلك خاصة وأن المخابرات الأمريكية متواجدة بكثافة في كل أجهزة التعاون العسكري والإستخباراتي في تركيا. و ثبت للسلطات التركية أن بعض الانقلابيين انطلقوا من قاعدة إنجيرليك المستخدمة من قبل الحلف الأطلسي. وزاد غضب أردوغان بعد رفض واشنطن تسليم الداعية فتح الله غولان . مما جعل أنقرة تفكر في إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية لصالحها. ولم يتردد بعض المحللين في تركيا من التخوف من أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بمثل ما قامت به في تغيير نظام الحكم في جورجيا وفي أوكرانيا وإخراج ذلك في صورة «ثورة الزهور» و«انتفاضة الميدان» وتنصيبها لحليفها ميخائيل ساكشفيلي كرئيس لجورجيا قبل انتقاله الى أوكرانيا أين منح الجنسية الأوكرانية ورئاسة منطقة أوديسا بقرار أمريكي.
روسيا والدور الإقليمي التركي
منذ زيارة أردوغان الى سان بيترزبورغ، عاصمة الإمبراطورية الروسية في 9 أوت 2016 لمقابلة فلاديمير بوتين، حرصت تركيا على فرض نوع من «الاستقلالية» مع الإبقاء على تواجدها في الحلف الأطلسي. الاتفاق الروسي التركي على إعادة العلاقات التجارية والسياحية والصناعية والتفكير في تطوير علاقات عسكرية تتمثل في صنع مشترك لنظام دفاع صاروخي متطور لا تدخل بالضرورة في سياسة الحلف الأطلسي. بل ذهب الطرفان إلى إحياء مشروع بناء مسلك أنبوب نفط للبترول الروسي عبر الأراضي التركية. في المقابل حصلت تركيا على حق التدخل العسكري على الأراضي السورية دون مقاومة روسية وفرض مساحة عازلة مع القوات الكردية.
كذلك بالنسبة للعراق، أصبح لتركيا إمكانية قصف و مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية بحجة «مقاومة داعش». وبالرغم من الغضب الرسمي العراقي فإن تركيا لم تقلع عن استعمال القاعدة العسكرية التي أنشأتها في العراق ونصبت فيها مئات الجنود والعتاد الحربي لفرض وجودها عند تحرير الموصل التي هي معقل التواجد السني في العراق.
استقلالية القرار التركي
على المستوى الداخلي، اتضح أن نظام رجب طيب أردوغان قام ، تحت غطاء مقاومة أنصار فتح الله غولان، بعزل وإبعاد كل المسؤولين «الموالين للغرب»، أي الموالين للولايات المتحدة، في أجهزة الجيش والمخابرات والأمن والإدارة بما في ذلك رئاسة الجمهورية والوزارة الأولى. وقامت قوات الجيش منذ محاولة الانقلاب بمحاصرة قاعدة إنجيرليك وجندت لذلك 7000 جندي من القوات الخاصة مسلحين بمدرعات وصواريخ محمولة مضادة للطائرات ومعدات ضد الدبابات تحسبا لأي تحرك عسكري. علما وأن قاعدة إنجيرليك المستخدمة من قبل الحلف الأطلسي تعد أهم قاعدة له في المنطقة وهي تحتوي على ما يقارب 100 رأس نووي تكتيكي أمريكي.
هل يعني ذلك بدء العد التنازلي للخروج من الحلف الأطلسي؟ الأرجح، حسب جل الملاحظين، أن تركيا ترغب في تركيز دورها الإقليمي مع تلاشي دور القوى العظمى وعدم قدرة الإتحاد الأوروبي على فرض قراراته في المنطقة. بالنسبة لأنقرة استقلالية القرار التركي هي ركيزة المشروع العثماني الذي يرغب في إحيائه رجب طيب أردوغان. القراءة السياسية الطاغية اليوم في تركيا تقول إن تحقيق ذلك المشروع يمر خارجيا بفرض وجود تركيا إقليميا، وداخليا بعزل كل الأصوات المناهضة لسلطة «السلطان» بما في ذلك الأكراد والمعارضين السياسيين والصحافة والمثقفين. ولو لزم الأمر أن ينعت النظام بالاستبدادي. هذا التوجه يطوي نهائيا صفحة دولة كمال أتاتورك التي قامت على مقولة «السلم في الداخل والسلم في الخارج».