يخطئ من يعتقد أن هذه الأسئلة خاصة بالطبقة السياسية والمثقفين والإعلاميين.. هي أسئلة الشارع التونسي كما يُقال ويكفي أن نحسن الإصغاء إليه لكي نراها تنطلق بقوة إثر كل عملية إرهابية وإثر كل نجاح أمني...
بعض قادة النهضة اليوم يقولون بأنّ من يتهم حركتهم باحتضان الإرهاب سنتي 2012 و2013 يهدد الوحدة الوطنية ويمهّد الطريق للدواعش وأنه لا أحد يمكن أن يُزايد على حركة النهضة في تنديدها بالإرهاب..
في هذه النقطة بالذات ينبغي أن نذكّر حركة النهضة بأن جل الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين يمكن لهم بكل يسر المزايدة عليها في هذه الحرب ضد الإرهاب لأنها – وفي أحسن الحالات- كانت من أواخر من التحق بالصف الوطني فيما كانت تعتبره زمن حكمها فزّاعة يريد «العلمانيون الاستئصاليون» استعمالها لإضعاف حركة النهضة ليس إلا..
لا شك أنه تصعب مناقشة قضية بمثل هذه الحساسية والشحن الإيديووجي بالبرودة الكافية حتى نتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الاقتراب او الابتعاد عن الحركات التكفيرية الإرهابية..
هذه التساؤلات وغيرها لا تأتي من فراغ بل هي نابعة من صميم التجربة التونسية بعد الثورة حيث تزامن فيها أمران اثنان: صعود وتنامي العنف ثم الإرهاب الذي مارسته جماعات السلفية الجهادية مقابل سنة ونصف السنة من التبرير النهضوي.. ولم ينتج هذا التبرير عن حركة مطاردة بل عن حزب سياسي يتحمّل مسؤولية الدولة والحكم..
كل الخطاب النهضوي المندد بالإرهاب اليوم يتحطم على الحجرة الصلبة لواقع تونس من نهاية سنة 2011 إلى أواسط سنة 2013 وتحديدا إلى اغتيال جنودنا الثمانية يوم 29 جويلية 2013 بالشعانبي وهنالك سؤال لم نجد له إلى حد اليوم إجابة مقنعة: لِمَ تساهلت حركة النهضة وهي في الحكم مع جماعات الإرهاب السلفي الجهادي المعولم؟لِمَ سعت إلى إيجاد شتى التبريرات الفكرية والسياسية والدينية لجماعات العنف والإرهاب؟
«الدعوة» والإرهاب
لا نريد أن ننظر إلى مجريات أحداث تلك الفترة بما حصل بعدها واتضح في وجدان الجميع.. بل نريد أن ننظر إليها وفق المعطيات التي كانت واضحة آنذاك.. والاكيد أن الحركة الإسلامية كانت تمتلك المزيد ما دامت حينها ماسكة بتلابيب الدولة وخاصة بوزارة الداخلية...
سوف لن نتحدث عن تاريخ الإرهاب السلفي الجهادي المعولم قبل الثورة التونسية وفي سياقاته الدولية وإن كان هذا التاريخ مهما للغاية ولا يمكن أن تدعي القيادات النهضوية أنها تجهله.. سوف نتحدث فقط عن بروز التنظيمات السلفية الجهادية المعولمة فوق أرض تونس وبعد ثورة 17 ديسمبر / 14 جانفي..
البدايات كانت مع خروج أكثر من ألف محكوم عليه بالسجن في قضايا الإرهاب بمقتضى مرسوم العفو التشريعي العام.. بعضهم كان مظلوما ولا شك ولكن المئات منهم من الإرهابيين الواضحين وهم إما من الوالغين في الدم التونسي أو من الخلايا التي كانت تخطط للقيام بعمليات إرهابية فوق التراب التونسي..
في سنة 2011 بدأت هذه المجموعات في التنظم تحت قيادة المكنى بـــأبي عياض (سيف الله بن حسين) وهو أحد «جنود» زعيم القاعدة أسامة بن لادن وكان إنشاء تنظيم أنصار الشريعة وفقا لخطة القاعدة بعد ما سمي بالربيع العربي لتقدم أذرعتها المحلية (تونس، ليبيا، اليمن...) تحت مسميات تبدو محببة إلى المتدينين المتشددين «أنصار الشريعة» وكان واضحا لكل متابع بان هذه التنظيمات تدين بالولاء عقائديا وسياسيا للتنظيم الإرهابي الأم خاصة وأن أبو عياض كان قد تلقى في أحد مساجد ضواحي العاصمة في ربيع 2011 التعازي بعد مقتل أسامة بن لادن على أيادي الأمريكان..
وكان شعار تنظيم القاعدة الإرهابي آنذاك في دول الربيع العربي هو استغلال هذه الحرية المتاحة للجميع للقيام بما يسميه «أنشطة دعوية» والدعوة في التنظيمات الإرهابية لا تنفك عن القتال فهي ممهدة له ومتزامنة معه وتالية له لقطف ثماره..
لا يمكننا أن نعتقد لبرهة واحدة جهل قيادات النهضة بهذه الخطة. وإن كان الأمر كذلك فهم إذن غير جديرين حتى بمجرد الحلم بقيادة البلاد...
الغريب آنذاك هو تبني وجوه نهضوية معروفة لهذه «النظرية» فقد كانوا يرددون على مسامعنا سنتي 2011 و2012 أن حركة «أنصار الشريعة» قد تخلت عن «الجهاد» أي الإرهاب وأنها أصبحت حركة «دعوية» أي سلمية!!
تبرير العنف باحترام المقدسات
تلك هي الخطيئة الأصلية لحركة النهضة قبل البحث في التفاصيل الأخرى المهمة: إيهام الشعب التونسي بان هذه المجموعات الإرهابية الدموية قد تحولت – بفضل الثورة – إلى ما يشبه غاندي وأنصاره...!!
فحتى العنف اللفظي والمادي الذي بدا عند هذه الجماعات منذ سنة 2011 وتعنيفهم لمثقفين ونساء ثم اعتدائهم على سينما أفريكارت وسعيهم لحرق مقرات قناة نسمة ومحاولة الاعتداء الجسدي الخطير على مديرها ثم أحداث المنقبتين بكلية الآداب بمنوبة فإمارة سجنان في جانفي 2012 فأحداث العبدلية في جوان 2012 ثم الاعتداء على السفارة الأمريكية في سبتمبر 2012.. في كل هذه المناسبات وغيرها كانت القيادات النهضوية العليا تجد كل الأعذار لهذا «الشباب المتحمس» والذي كان يذكر زعيم النهضة بشبابه أما السبب فهو «العلمانية المتطرفة» محليا ودوليا التي كانت تستفز مشاعر هؤلاء الشباب والحل عند السيد راشد الغنوشي وجماعته هو سنّ قوانين تجرم الاعتداء على «المقدسات» لأن هؤلاء الشباب إنما لجؤوا إلى العنف في العبدلية (وقد لقي أحدهم مصرعه بمدينة سوسة) وأمام السفارة الأمريكية (لقد تم قتل أربعة مهاجمين) نظرا للدوس على هذه المقدسات!!!
ثم إن السلفيين الجهاديين، حسب تعبير راشد الغنوشي، هم «أبناء الثورة» وهم أقل خطرا من حركة نداء تونس عليها.. هذا كان في حوار له مع جريدة جزائرية في أوت 2012..
ولقد ظهر السلفيون الراديكاليون كحلفاء للنهضة التي كانت قيادتها تخشى من النخب الممثلة في الجيش والأمن (غير المضمونين!!) والإعلام وأصحاب الأعمال...
ثم إن ننسى فلا ننسى النظرية التي أبدعها علي العريّض في جوان 2012 وهو وزير للداخلية وشنف بها آذان نواب الشعب في المجلس الوطني التأسيسي تعليقا على العنف الذي شهدته ولايات تونس الكبرى وسوسة فيما عرف بأحداث العبدلية بأن أزلام النظام البائد هم المسؤولون عن كل هذا وأنهم حركوا بائعي الخمر خلسة (هكذا) والذين حركوا بدورهم مجموعات إجرامية ودفعت بالنهاية الشباب السلفي «الساذج» إلى اقتراف العنف!!!
كيف تريد قادة النهضة من التونسيين أن ينسوا كل هذا؟! وهذا بالطبع دون الحديث عن جماعات روابط حماية الثورة وعن سحل الشهيد لطفي نقّض في سبتمبر 2012 وعن هجوم هذه الأذرعة البدنية على المقر المركزي لاتحاد الشغل يوم الاحتفال بالذكرى الستين لاغتيال شهيد الوطن فرحات حشاد وكيف اتهم زعيم النهضة في ندوة صحفية النقابيين بأنهم هم مقترفو العنف أمام متظاهرين «سلميين»!!
تحول في الخطاب دون اعتذار أو توضيح
كيف ننسى كل هذا!! كيف يمكن للتونسيات والتونسيين أن ينسوا سنة 2012 سيئة الذكر حيث تكررت فيها الاعتداءات السلفية على المواطنات والمواطنين بغض بصر تام من السلط الأمنية الواقعة تحت قبضة حركة النهضة آنذاك..
وعن تخريبهم واعتداءاتهم على كل اجتماعات أحزاب المعارضة وحتى الأحزاب في الحكم (التكتل) على امتداد سنة 2012.
وحتى إن نسيت النخب والأحزاب السياسية واعتبرت أن مصلحة البلاد تقتضي تجاوز هذه الصفحة المظلمة فإن المواطنين لا ولن ينسوا هذه الأحداث المنقوشة في ذاكرتهم الحية لا سيما وأننا لم نسمع إلى الآن لا اعتذارا واحدا مقنعا ولا تفسيرا لموقف الحركة الإسلامية آنذاك بإمكانه طمأنتنا ولو نسبيا»..
كل ما لاحظناه هو تحول جذري في الخطاب العلي وإبعاد للوجوه ذات العلاقات المسترابة مع التكفيريين والسعي المحموم لمواراة هذا الماضي القريب تحت التراب دون اعتذار أو شرح أو تفسير.. بل وعندما تذكر هذه الأحداث أو بعضها لقادتهم اليوم تصبح متهما بـــ«النبش» في الماضي وبإيقاظ الفتنة وبالمتاجرة في الدماء؟!!
نعيد ونقول – رغم سوء فهم بعضهم لهذا – بأننا لا نتهم جزائيا وشخصيا حركة النهضة بالإرهاب لأنه لو كانت لدينا هذه القناعة لكان المكان الوحيد لهذه الحركة هو وراء قضبان السجن لا مجلس نواب الشعب والحكومة والمجتمع.. فالاتهام مباشرة بالإرهاب له استتباعات قضائية وسياسية لا بد من تحملها حتى تكون المقدمات منسجمة مع النتائج...
ولكن المسؤولية السياسية والأخلاقية لحركة النهضة جسيمة للغاية في تفشي مناخ العنف والإرهاب وفي منع قواتنا الأمنية والعسكرية طيلة عشرين شهرا، تقريبا، من تفكيك هذه الخلايا الإجرامية التي جلبت السلاح وسفّرت الشباب إلى بؤر التوتر بمباركة بل وبتجييش «مشائخ» النهضة لقتال نظام بشار وفقا لأجندا إخوانية وجهادية إرهابية وخليجية وتركية وغربية لا ناقة لنا فيها ولا جمل.. ويكفي هذا لكي تكون تركة حكم النهضة ثقيلة لأبعد حد...
هذا غيض من فيض كما يُقال.. وسوف يبقى هذا الجرح غائرا في ذاكرتنا الحيّة ما لم نر اعتذارا واضحا وصادقا وتفسيرا جديا لكل هذه الأخطاء القاتلة التي أضرّت أيّما إضرار بالبلاد وبالعباد...
لا يوجد عاقل واحد في تونس يريد للنهضة أن تكون في صف الإرهاب وأعداء الوطن ولكن بين هذا وبين وحدة وطنية جدية في مقاومة الإرهاب هنالك خطوة ضخمة وهي خطوة النقد الذاتي الجريء والمصالحة الفعلية مع المجتمع التونسي.. ودون ذلك تبقى حركة النهضة على هامش الوحدة الوطنية مهما حشدت من أنصار وحصلت عليه من أصوات...