ما الذي يدفع شبابا علاقتهم بالتشدد وحتى بالتديّن ضعيفة في بحر أسابيع قليلة إلى أن يصبحوا أدوات لدمار مريع وشنيع لا يجرؤ الإنسان السليم حتى على مجرّد تخيّله؟.. ثم ما علاقة كل هذا بالدوافع الإيديولوجية والسياسية للجماعات الإرهابية المنظمة؟..
وتزداد هذه الأسئلة إلحاحا خاصة عندما ندرك الفوارق الشاسعة بين إرهابيي ما يسميه بعضهم «الجيل الأول» لتنظيم القاعدة وإرهابيي «الجيل الثالث» لداعش..
يمكن أن نقول بأن المنتمين للتنظيمات الإرهابية السلفية الجهادية سواء كانت محلية كـــ(تنظيمات الجهاد المصرية وطالبان الأفغانية والجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية) أو لأول تنظيم معولم ونعني به القاعدة.. هؤلاء المنتمون كانوا بصفة عامة يمرون من العقيدة السلفية الجهادية التكفيرية إلى العمل الإرهابي أي أن الدوافع الأساسية للتنظيم وللأفراد هي دوافع إيديولوجية بمقتضاها يتم التشريع للعنف إثر تكفير «العدو» ثم التدريب شبه العسكري فالمرور إلى تنفيذ عمليات إرهابية...
هذا المرور من الإيديولوجيا إلى الممارسة العنيفة هو السمة الأساسية لتلك التنظيمات الإرهابية ولما يُسمى بالجيل الأول للإرهابيين...
وهذا المرور يتطلب كما لا يخفى تكوينا مذهبيا وأدلجة عقائدية وشحن الذهن بالمسوغات الدينية المتشددة لتكفير الحكومات وفئات من المجتمع.. والتكفير عند هؤلاء هو شرط التفجير...
وبهذا المعنى لا يمكن أن نتحدث عن عنف عدمي لأن هذا العنف، على دمويته، يهدف إلى تحقيق غايات سياسية أقصاها الطوباوي هو إقامة «الخلافة الإسلامية»..
وهذا ما جعل هذه التنظيمات قليلة العدد حتى في مناطق نفوذها الأساسية لأن هذه التنظيمات الإرهابية بحاجة إلى اختبار طويل للمنتسبين إليها بداية من الاختبار العقائدي وصولا إلى الاختبار الميداني في بؤر التوتر... وهذه «النخبوية» هي التي دفعت ببعض الباحثين إلى اعتبار الإرهاب السلفي الجهادي عدميا لأن هنالك بونا شاسعا لا يرتق بين الهدف الأقصى «إقامة الخلافة» والوسائل والإمكانيات المتاحة أي تفجيرات تصيب أهدافا محدودة ولا تمثل تهديدا لأية دولة... وعليه فإن هذا الإرهاب لا هدف مادي له، حتى وإن ادعى عكس ذلكّ، ولهذا اعتبر، خطأ على ما نرى، إرهابا عدميا يصبح فيه الإرهاب غاية في حد ذاته لا وسيلة لتحقيق هدف سياسي إيديولوجي..
لا شك أن هذا الصنف من الإرهابيين مازال قائما الآن ولكن اللافت للنظر ومنذ عدة سنوات هو بروز ما يُسمى بجيل ثالث مروره إلى الإرهاب الميداني لا يتطلب وقتا طويلا من الإعداد العقائدي والنفسي.. بل أحيانا ينتقل الفرد في أسابيع قليلة من الانحراف والابتعاد المطلق عن كل مظاهر التدين إلى الإقدام على أبشع العمليات الإرهابية كما هو الحال في الهجوم الشنيع الذي استهدف مدينة نيس وهذا الصنف موجود كذلك بكثرة في مختلف بؤر التوتر و«المحاضن» الإرهابية شمالا وجنوبا...
لا شك أن مرحلة الإعداد العقائدي باقية لا محالة ولكنها أصبحت ضامرة وأحيانا سطحية إلى أبعد الحدود كما هو الشأن – فيما يبدو – عند صاحب شاحنة مدينة نيس وكذا القاتل في ملهى ليلي للمثليين بمدينة أرلندو الأمريكية.
والواضح أيضا أن تنظيم داعش الإرهابي أصبح يولي العمليات الإرهابية الميدانية الأولوية القصوى على حساب التكوين الإيديولوجي على عكس ما كان الشأن عند تنظيم القاعدة حيث نجد نوعا من التوازن بين التكوين العقائدي والمرور إلى الإرهاب...
الواضح أن الهدف السياسي للتنظيم الإرهابي داعش هو الذي أملي عليه هذا التغيير بداية لأنه يريد إقامة «الخلافة» الآن وهنا ولا ينتظر لذلك أجيالا وأجيالا وهذا يفرض عليه بأن يكون أكثر «مرونة» في اختيار أنصاره وثانيا لأن المشهدية الإرهابية الداعشية أضحت هي الدافع الأول والأساسي لاستقطاب الوافدين الجدد.. وثالثا – وهذا الأهم في سياقنا الحالي – في المزج بين ضرورات التنظيم العسكري....