وذلك دون أن أي تفسير رسمي يبرر سبب هذا الانقطاع لولا تدوينة نشرها النائب بالبرلمان الجديد ياسين مامي أعلن فيها أن انقطاع المياه ليلا ،خيار استراتيجي من قبل شركة توزيع المياه. وكشف النائب عن دائرة الحمامات، إحدى المدن التي شهدت في الفترة الأخيرة تواتر انقطاع المياه ليلا، انه وباتصاله مع مسؤولين في شركة توزيع المياه تم إعلامه ان الانقطاع الذي تشهده مدينة الحمامات يندرج ضمن خطة تقسيط المياه التي تتبعها الشركة لضمان حسن التصرف في الموارد المائية الشحيحة.
بهذه التدوينة التي نشرها النائب واستند فيها إلى معطيات قدمت له من قبل مسؤولين في شركة توزيع المياه هناك إقرار شبه رسمي لا فقط بوجود أزمة مياه في البلاد بل بالخيارات الكبرى التي ستنتهجها سلط الإشراف لإدارة هذه الأزمة لا فقط خلال الأسابيع الراهنة بل إلى حين حلول موسم الأمطار القادم.
اليوم جل التفاصيل المتعلقة بمخزون المياه في تونس خاصة تلك المتعلقة بالنسبة العامة لامتلاء السدود وهي 32% وهي ذات النسبة التي كانت عليها في ديسمبر 2022 وفق الإحصائيات الرسمية المنشورة حينها وهي اقل بقليل من النسبة المسجلة في 2017 التي تتشابه مع السنة الحالية في نقطة توالي الجفاف لثلاث سنوات متتالية. جفاف ادى في 2017 الى ما يتذكره جل التونسيين من انقطاع كلي او جزئي للمياه في عدد من المدن الكبرى خلال شهري جولية وأوت وهو ما قد نتجه اليه في هذه الصائفة بشكل اعم واوسع اذا لم تهطل الأمطار في شهر افريل القادم.
وضع كان منتظرا وقد حذر منه خبراء المناخ بل وأجهزة الدولة ممثلة في المدير العام للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، مصباح الهلالي، الذي قال في ماي 2021 ان البلاد قد تعاني من عجز مائي في 2023 وان توزيع المياه الصالحة للشراب سيشهد اضطرابات حادة اذا استمر شح هطول الأمطار في ظل استنزاف الموارد المائية الباطنية.
وها نحن اليوم نقف أمام "البعبع" الذي لم نكن نخشاه رغم كل التحذيرات التي وجهت لنا منذ 1995، ولكن اجل النظر في معالجة متكاملة لهذا الخطر، فأزمة المياه التي تهدد البلاد لا تقف تداعياتها السلبية عند نقطة العطش برمزيته ودلالته، بل تهدد باصابة كل محركات إنتاجها بعطالة، فكل الأنشطة الاقتصادية قائمة بشكل او بآخر على الماء وشحه وندرته ستؤثران بشكل مباشر على هذه الأنشطة، الفلاحية منها والصناعية والتجارية والخدماتية ..الخ.
وهذه هي الإشكالية التي لم تجد لها البلاد التونسية إجابة بعد، وهو ما يفسر تكرار سلوك السلطة خاصة منذ 2011 بالبحث عن حلول ترقيعيّة، كاعتماد سياسية تقسيط المياه او دعوة الفلاحين إلى تجنب زراعات بعينها في بعض المواسم او حملة محدودة للتوعية بترشيد الاستهلاك المنزلي للمياه، دون إغفال بعض القوانين والإجراءات التي لم تر طريقا الى التطبيق بعد. ما لم يطرح بشكل جدي كيفية تطوير منظومتنا المائية وكيفية استغلالها بما يتتناغم مع حاجياتنا والمخاطر المناخية التي نواجهها، ففي تونس التي تعاني من فقر مدقع في المياه يتم تبذير المياه بطرق عدة، سواء بالإهدار الناجم عن تأكل شبكة الربط المنزلي أو الفلاحي التي اعلن انها تهدر حوالي 30 % من الكمية التي تنقلها بسبب سوء حالة قنوات الربط والري.
ولا يقتصر التناقض عند هذا الحد بل في كيفية استغلال المياه عبر أنشطة فلاحية أو صناعية ذات مردودية محدودة ولكنها تستنزف مواردنا المائية ذلك ان القطاع السياحي يكلفنا السرير الواحد فيه 500 لترا من المياه، قطاع النسيج وخاصة "الدجين" يستهلك إنتاج متر مربع من هذه المادة ما يستهلكه 20 تونسيا من المياه يوميا. وأخيرا القطاع الفلاحي الذي شجعت فيه الدولة التونسية منتوجات كالقوارص والفراولة و"الدلاع" رغم تكلفتها المائية الباهظة.
هذا التناقض يكشف عن قصور أصاب العقل التونسي ويجب اليوم وضع حد له بفتح نقاش عام لوضع إستراتيجية وطنية لمنظومة المياه تنطلق من آليات تجميعه وحسن استغلال مياه الأمطار التي يهدر قسم هام منها لعدم توفر بنية تحتية قادرة على استيعابه وتجميعه وتخزينه، وان نجد منظومة تخزين ناجعة تستجيب لمناخ تونس.
وفي انتظار تحقيق هذا على السلطة اليوم ان تضع سياسة اتصالية تشرح الازمة كخطوة لحث التونسيين على تغيير وتعديل سلوكهم الاستهلاكي للمياه والانخراط لاحقا في سياسات الدولة العمومية في هذا الملف.