سؤال حريّ بأن يطرح بعد أن شاهدنا صور التكبير والصلاة والدعاء والذكر ووضع البخور والاستنجاد بالأولياء والصالحين من سيدي محرز إلى سيدي بوتفاحة. فما الذي يدفع اللاعبين والجماعات المناصرة لفرقها إلى ممارسة الطقوس الدينية في الملاعب؟ وهل تحوّلت الملاعب إلى فضاءات للتعبير عن الهوية الدينية ؟ ولم نشطت «السوق الدينية» بالتوازي مع السوق الرياضية؟
لا شكّ أنّ الملاعب صارت توفّر فرصة لعيش تجربة دينية مخصوصة إذ تلتقي الجماهير في زمن مفصلي «حارّ» فتتوحدّ وتمارس مجتمعيتها وتتضامن وتتآزر من أجل أن تكون شاهدة على لحظة تحقيق الانتصار، ومستمتعة في الآن ذاته، بمشاعر الغبطة والسرور وبالإحساس بالتفوّق، «كنتم خير أمّة..» وهي إذ تتذرّع لله وتستنجد بالقوى الخارقة وترفع الأيادي إلى السماء أو تنحني لتسجد على الأرض تسترجع انتصارات المسلمين في حروب الفتح على «الكفّار» فتنشط الذاكرة وتعود إلى الأذهان صور الغزوات وانجازات الأبطال العظام فلا بأس حينئذ أن ندعو على الفرنجة والصليبيين و... ولا مانع في أن نبرهن على أنّ الرياضة متصالحة مع الدين وفي خدمته.
غير أنّ المطلّع على تعليقات الجماهير المناهضة للاستعمار سرعان ما يتفطّن إلى أنّ المتخيل الحربي الديني يتجاور مع متخيل شكله الصراع بين الأنا/الآخر في السياق التاريخي الاستعماري. فليس الفريق الفرنسي (رغم أغلبية اللاعبين السود فيه) في نظر التونسيين والمغاربة إلاّ فريق فرنسا الاستعمارية صاحبة المشروع الهيمني المعبّر عن نهم الرجل الأبيض المسيحي، وهي أيضا فرنسا «العلمانية المتطرفة» والكارهة اليوم، لحضور العرب والمسلمين بعد صعود «اليمين السياسي» والمندّدة بأداء اللاعبين المسلمين الصلاة أو السجود على أرض الملعب شكرا لله لأنّها ببساطة لا تريد أن ترى ممارسات أبنائها حين تموّل الجمعيات المسيحية الخيرية الفرق الرياضية أو حين يُقبّل بعض اللاعبيين الصليب بعد الانتصار أو يمارسون التبشير أو حين يقرّر بعضهم أنّ ما سيجنونه من قطر سيدفع منه نصيب للكنيسة...
ليس ما يحدث في الملاعب إلاّ امتدادا لما نراه على الميديا الاجتماعية وما نستمع إليه من حوارات ونقرأه من تصريحات لعدد من اللاعبين الذين صاروا يفتون في الدين فيحللون ويحرّمون ... إنّها خطابات وممارسات تشير إلى طرائق تمثّل الدين إذ أضحت وظيفته توفير الحماية لللاعبيين ورعايتهم حتى يتجاوزوا محنهم وكلّ العراقيل التي تحول دون تقديم أداء مشرّف يحفظ ماء الوجه وهكذا يتمكّنون بفضل الله من تحقيق العزّة وإسعاد المهمشين والمنسيين والمحبطين ويساعدونهم على «رفع رؤوسهم».
لم يعد يُنظر إلى الرياضة على أنّها تمثّل تهديدا للنظام الاجتماعي وللأخلاق العامة والدين لاسيما حين تلهي الناس عن صلاتهم وعباداتهم ومسؤولياتهم .بل إنّها صارت أنشطة داعمة للدين .فمن خلال إبراز مظاهر التديّن والتعبير عن المعتقدات وممارسة الطقوس وحمل الرموز تتوطّد الصلة بالجماهير فيكون هؤلاء كالبنيان المرصوص، ومن خلال «مسرحة الطقوس» قد يقتدي اليافعون والشبّان بالشخصيات البطلة فيسلكون طريق الهداية وتلك حسنات في رصيد اللاعبين وفرص لجني الثواب العظيم...
وفي المقابل تغدو رياضة كرة القدم في نظر بعضهم في مقام الدين فلا إيمان إلاّ «بالتكوير» وبأيقونات اللعب ... ولا عروج إلى السماء إلاّ من خلال نصرة اللاعبين ولا ممارسات قدسية إلاّ وهم في جوهرها ولا حدود بين المقدس والدنيوي بينما تتحوّل هذه الرياضة في نظر آخرين، إلى وجه من وجوه التدين الشعبي الذي يحقق التلاحم بين الجماهير والانصهار عبر تجربة فريدة من نوعها.
ومهما اختلفت وجهات النظر وأنساق التمثيل ووظائف الرياضة ومقاربات تحليل أبعادها فإنّ كرة القدم تبوأت الصدارة في سلّم ترتيب الرياضات، وهيمنت على العقول فصارت الشغل الشاغل للجماهير فتجاهلوا لفترة ،هموم السياسة والانتخابات ومحنة البحث عن «باكو حليب».