وتتمثل أزمة المالية في مسألة أساسية وهي ضعف تغطية نفقات الدولة بالاعتماد على مواردها الذاتية إذ نزلت هذه النسبة دون %70 في سنوات كثيرة ممّا اضطر الحكومات المتعاقبة ضرورة إلى الاقتراض إلى أن أصبحت استدامة مديونيتنا محل شك كبير ..
إصلاح التوازنات المالية للدولة مسألة أساسية - ولاشك - ولكنها لا تفيد لوحدها في تحقيق نهوض اقتصادي أو رفاهية اجتماعية بل عادة ما اقترنت في الخطاب الرسمي بـ»الإصلاحات الموجعة» .
وبغض النظر عن «الوجيعة» المرتقبة فإن الغريب فعلا هو انحصار فكرة الإصلاح بصفة تكاد تكون كلية بتوفير شروط استدامة الدين.فنحن لا نقترح إصلاحا يسمح لاقتصادنا بالازدهار والنمو وخلق الثروة والقيمة المضافة والرفاهية لعموم المواطنات والمواطنين بل نقترحه أساسا للحد من إنفاقنا العمومي حتى نكون قادرين على سداد ديون الدولة الخارجية والداخلية .
فإذا نظرنا إلى البرنامج الوطني للإصلاحات الذي قدمته الحكومة يوم 3 جوان الجاري نجد أن المجالات الأساسية للإصلاح تكمن في التحكم في كتلة الأجور وتوجيه الدعم لمستحقيه مع رفعه تدريجيا عن الفئات الأخرى (من هي ؟) وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية التي تستنزف جزءا هاما من تحويلات ميزانية الدولة،وهذه الإصلاحات، في الوثيقة التي أرسلتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي،مرقمة ومحقبة وتهدف كلها إلى الحدّ من الإنفاق العمومي قصد ضمان استدامة الدين في نهاية هذا البرنامج ،وما لا يقال بوضوح للتونسيين هو ان الطبقة الوسطى – أو ما تبقى منها – ستكون المتضررة الأساسية من هذه «الإصلاحات» وأننا سندفع جميعا من قدرتنا الشرائية شروط استدامة الدين .
قد يقال أن إصلاح المالية العمومية شرط أساسي لكل إصلاح اقتصادي ..نعم ولاشك ولكنه شرط غير كاف وهو حامل لتناقض داخلي إذ لا يمكن أن نحقق استدامة الدين بتراجع عام للقدرة الشرائية لعموم المواطنين / المستهلكين ..
في الحقيقة نحن أمام نفس التمشي الذي سعت إليه كل الحكومات السابقة منذ 2015 وفشلت فيه جميعا بمقادير مختلفة .. الواضح أن الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب صدمة استثمارية (un choc d’investissement) غير مسبوقة أي أن نرفع بصفة كبيرة في حجم الاستثمار العمومي بداية والخاص والأجنبي ثانية .. بعبارة أخرى الترفيع في الاستثمار العمومي من 4 مليار دينار المبرمجة في مرسوم / قانون المالية لسنة 2022 إلى 8 أو 10 مليار دينار أو أكثر، وهذه الصدمة الاستثمارية هي التي ستسمح بارتفاع كبير للاستثمار الخاص الوطني والأجنبي،فلو تمكننا من تحقيق هذه «الصدمة» على امتداد ثلاث أو أربع سنوات متتالية ومرافقتها بإصلاحات هيكلية لمنظومات الإنتاج السلعي والخدماتي والتكوين والرسكلة ستوفر ولاشك الظروف الموضوعية لنمو اقتصادي قوي يتجاوز بوضوح %5 أو %6 سنويا ..
الإشكال الرئيسي هنا هو كيف نحقق هذا دون تداين إضافي ؟ والجواب بسيط إلى حدّ كبير : توفير الشروط السياسية والقانونية والإجرائية والاجتماعية لبيئة حاضنة ومشجعة على الاستثمار وتحقيق شراكات ضخمة بين القطاعين العام والخاص في البنية التحتية وفي المشاريع الصناعية والخدماتية المهيكلة .
المطلوب هنا تغيير جذري لزاوية النظر وعدم الوقوف فقط عند الاختلالات الحالية للتوازنات المالية ومحاولة إصلاحها بالحدّ من الإنفاق وبالتقليص من القدرة الشرائية للمواطنين بل العمل على دفع قوي لحجم ونسق الاستثمار وتحويل كل جهات البلاد إلى ورشات مفتوحة بتنويع الشراكات مع القطاع الخاص وبجلب الاستثمارات الأجنبية الجدية ولكن ذلك لن يحصل أيضا ما لم تتغير الأولويات السياسية رأسا على عقب وما لم يُنزع فتيل الأزمة بصفة قوية ونجد الحلول الوفاقية لاستئناف حياة ديمقراطية سليمة وتحويل الإدارة إلى قاطرة للاستثمار لا إلى معيق له ..
ينبغي ولاشك معالجة اختلال التوازنات المالية للدولة وان نعالج الأوضاع الاجتماعية الصعبة لمواطنينا بحلول اقتصادية جدية تخلق الثروة وتساهم في الرفاه الجماعي ولكن الأساسي – هو - في الافق الذي نقترحه على التونسيين : إصلاحات «موجعة» يكاد يكون الوجع فيها غاية في حد ذاته أو جهدا وطنيا شاملا لنهوض البلاد وللارتقاء السريع في سلم القيم مع تقاسم عادل للتضحيات كلما اقتضى الأمر ذلك، جهد يقوم على وفاق وطني حقيقي وتشاركية فعلية لا صورية ..
يبدو أن الحكومة قد اختارت الطريق الأسوأ.