الحالية معركة وجود لا تقبل الحلول الوسطى. لا بمعناها السلبي كتنازلات بل بما هي عليه من حلول تقتضى التوافق وعقلنة العملية السياسية وإعادة ترتيب الاولويات وخطوات الخروج من حالة الركود التي تعمقت رغم ما يبرز من حركية ظاهرية لا تغيير من طبيعة الازمة او تنتقل بها الى مسار الحلحلة.
تطورات عكست استمرارا لحالة التصعيد التي دخلتها البلاد منذ 25 من جويلية الفارط وباتت هي من تجر البلاد الى مستقبل يبدو انه لم يعد مجهولا ولكنه ايضا غير معلوم التفاصيل إن تعلق الامر بكيف ستكون سبل مغادرة «الانهيار» الذي بات وشيكا.
انهيار تتسارع خطواته مع كل ساعة تمضى، فبعد خطاب الرئيس الحاد في بداية الاسبوع جاء يوم الاربعاء وحمل معه تسارعا في الاحداث انطلق من هجوم عنيف شنه الرئيس على القضاء وخاصة على المجلس الاعلى للقضاء والاتهام الذي وجهه الى عدد من القضاة بالفساد المالي والأخلاقي والتي قدمت على انها حجج اعفاء 57 قاضيا.
خطوة عمقت مرة اخرى الانقسام في البلاد ورسخت حقيقة وجود فريقين بارزين متناقضين. فريق يواصل دعمه للرئيس ولمشروعه السياسي وفريق يعارضه ويعتبر ان كل ما يصدر منه اليوم بات ينبئ بخطر انجراف البلاد الى مربع الحكم الفردي وهذا اشد الدكتاتوريات سوءا.
لهذا استمر تعاطى كل منهم مع ما يصدر عن الاخر وفق تموقعه السياسي وبين الطرفين تعددت النزالات والمناورات السياسية الباحثة عن تحصين الموقع او عن تحقيق كسب طفيف او احراج الطرف الاخر دون حسم الصراع بشكل كلي او التقدم الى الحل الجدي. وفي هذا تتنزل كل الاحداث المتصلة بلجان الهيئة الاستشارية من اجل الجمهورية الجديدة.
لجان ينتظر ان تنطلق اشغالها اليوم في ظل تصاعد موجة الرفض الواسع من قبل من وجهت اليهم الدعوة للمشاركة. خلال الساعات الـ 48 الفارطة بين بيانات الرفض وتندوينات تعلن عن عدم قبول المشاركة في اشغال اللجان مقابل من يعلنون القبول والمشاركة في اشغال اللجان. ليستمر الحال على ما هو عليه.
أزمة وانقسام حاد بسط ظله على البلاد وجعلها فريقين. فريق يدعم الرئاسة ومشروعها لكن دون قدرة على توفير غطاء سياسي، في المقابل فريق يرفض لا قدرة له على وقف المسار الحالي لكن له ثقل فعلي وقدرة على توفير غطاء سياسي للرئاسة يمنحها مقبولية ليس فقط داخيا بل خارجيا. اي له القدرة على ان يعالج مكامن الضعف لدى الرئيس وفريقه.
ضعف مرده الوضع المالي الصعب الذي تعيشه البلاد والتي تعول على دعم الدول والمؤسسات المالية لها لتجنب الانزلاق الى «الانهيار». هنا ذات الوضع القديم يستمر اذ يشترط الدعم مقابل تعديل المسار وهذا ما يجابه بالرفض في تونس ويقابل بتشديد على ان السيادة خط احمر.
السيادة الوطنية والدفاع عنها هو الرد المتكرر لكل الدعوات الصادرة من العواصم الغربية للسلطات في تونس لعقلنة عمليتها السياسية واخرها ما صدر من واشنطن على لسان المتحدث باسم الخارجية الامريكي حول خطوة اعفاء القضاة التي اعتبرتها الادارة الامريكية بمثابة «نمط مقلق» يهدف الى تقويض المؤسسات الديمقراطية المستقلة في تونس.
اعراب عن القلق تزامن مع التشديد على ان الادارة الامريكية ابلغت المسؤولين التونسيين بصورة مستمرة بأهمية الضوابط والتوازنات في النظام الديمقراطي و حثت الحكومة التونسية على انتهاج عملية إصلاح شفافة تشرك الجميع وتستفيد من إسهامات المجتمع المدني والطيف السياسي المتنوع لتعزيز شرعية مساعي الإصلاح.
موقف لم يحمل بدوره الجديد غير التأكيد على ذات القديم القائم على ان العواصم الغربية تنظر الى الوضع التونسي على انه «حرج» وتشترط دعمها المالي والسياسي والاقتصادي بالحوار الفعلي قبل الشروع في الاصلاحات. ليستمر الوضع كما كان عليه طوال الاشهر الفارطة ازمة تتغذى من نفسها بعد ان باتت كحلقة مغلقة.
حلقة لا تنكسر رغم كل الصخب صلبها وكل الحركية وكل محاولات ايجاد مخرج منها، ومع استمرار حالة الانغلاق تتضاعف الضغوط وعوامل الاختطار المحدقة بالبلاد ومستقبلها في ظل تردي كل مؤشراتها المتعلقة بتوازناتها المالية من ذلك توجه البلاد الى اقتراض من البنك الاوروبي للتنمية والتعمير لضمان قدرتها على التزود بالحبوب من السوق الدولية.
هنا يصبح جليا لكل الفاعلين ان البلاد تدفع الى «مستقبل» افضل سيناريوهات فيه ان نجد المخرج حتى وان متأخرا ونتحمل تكلفة باهظة جراء اهدار الوقت والفرص التي تكررت، ولكن هذا بدوره سيناريو صعب التحقق في ظل تمسك بالمواقف وتصلب تبديه كل اطراف اللعبة السياسية. لتبقى فرضيات اخرى اخطر واشد وقعا لا على الدولة ومؤسساتها بل على مختلف جموع التونسيين وقواسمهم المشتركة.
اللعبة السياسية اليوم باتت تتعلق إلى أي مستقبل سنلقى إليه خلال الأسابيع القادمة.