فقال الأسد: «إني أحبّ الشورى قبل العزم. فهلاّ أخبرتماني بأحسن السبل لتقسيم الفرائس؟» قال الثعلب: «أنت الأقوى يا سيدي. فاحكم بيننا بما ترى. فتلك مقاربتنا الجديدة غير المسبوقة في تاريخ الغاب.» أجاب الأسد: «أحبّ المقاربات الجديدة. ولكني لست ممّن ينفردون بالرأي. وإني أحبّ الحوار، بشرط أن لا يتعارض مع مقتضيات المرحلة».
قال الذئب وقد أبهرته ديمقراطية الأسد: «أمّا وقد شاورتنا في الأمر، فأنا أرى أن يأخذ الثعلب الأرنب، وأحصل أنا على الغزال. وهكذا يمثّل الجاموس نصيب الأسد».
سمع الأسد هذا الاقتراح في هدوء شديد. ولكن قبضته اهتزّت بعد ذلك كي تهوي على رقبة الذئب الذي طارت رأسه ووقعت بين يدي الثعلب. نظر الأسد لصاحبه المتبقّي، وأشار له أن تكلّم، فلم تبقّ إلا مشورتك. فأجاب الثعلب: «لقد سمعت من طبيب الغاب أنه لا ينبغي الاكثار من الطعام ليلا ولا صباحا. ولذا، فالرأي عندي أن تتخذ الأرنب فطورا، وتلتهم الجاموس غذاء، وتتناول الغزال عشاء.» قال الأسد: «بوركت أيّها الثعلب. من علّمك هذه الحكمة.» تردد الثعلب، لكنه أجاب: «علّمنيها رأس الذئب ملقى بين يدي».
لا شكّ أن الأسد انفجر ضاحكا من ردّ صاحبه الحكيم ضحك بعض التونسيين من أنفسهم وهم يقرأون تفاصيل ما يسمّى بالمرسوم عدد 30 لعام 2022 المنظّم لما يسمى مجازا بالحوار الوطني. فكلمة الحوار في هذا المرسوم «غير المسبوق في التاريخ» ليست إلا ورقة توت لا تخفي عورات نظام حكم الأمر 117 المؤرخ في 22 سبتمبر لعام 2022. كيف لا، والأمر المذكور يجعل نفسه فوق الدستور، وكأن لسان حاله يقول: «إني ابنت بارة، ولكني قد أنجبت أمي وجدتي، بل وأم جدي أيضا.» ثم إن هذا الأمر يحصّن مراسيم رئيس الجمهورية من الطعن، وكأن لسان حال صاحبه يقول: «إني أمّ بارة، ولكن إلاهة لا معقّب لكلماتي. وبنات قلمي ومحبرتي نصوص مقدّسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها».
هل يمكن التحاور مع سلطة تسمح لنفسها بأن تقول مثل هذا الكلام؟ يخطئ من يجيب بالنفي. ودليل ذلك حوار الأسد والذئب والثعلب الذي ذكرنا آنفا. نعم لقد أثبت الثعلب أنه يمكن بالفعل الحوار مع ملك الغاب. وهذه الخلاصة سليمة حتى إذا تألّه صاحب السلطة. بالتأكيد هو حوار من نوع خاص. هو حوار غير تقليدي كما يثبت ذلك مثل الذئب ورأسه. غاية الحوار لا يمكن أن تكون تقسيم الغنائم. فحاشى وكلاّ أن تقسّم الغنائم في حضور صاحب السيادة. فنصيب الأسد لا يمكن أن يكون الجزء وإن كبر. فالسيادة بهذا المعنى لا تجزّأ.
إن الحوار في إطار قانون الغاب يرمي إلى غاية مختلفة تماما. وهو ما أدركه الثعلب. إنه يرمي إلى توفير أوراق التوت حين فقدانها. فالسلطة العارية من الشرطية تحتاج لهذه الأوراق، لا لتكسو عوراتها، بل لتستر شيئا من عورات من يخضع لها. هنالك يكمن الفرق بين الذئب والثعلب في قصتنا. لقد قبل كلّ منهما سيادة الأسد عليهما. فأراد ربّهما أن يمنحهما فرصة تبرير تلك السيادة. أما الذئب، فلم يفهم لأنه نسي قانون الغاب ومعناه أن لا معقّب لكلمات ربّه. وأمّا الثعلب، فقد ذكّره دم الذئب. فعلم أن مناط الحوار وفق قانون الغاب هو كيفية تناول الغنائم من قبل صاحبها الأوحد.
أين الحوار في كل هذا؟ العبرة أن «القفّة» في الحقيقة قفّتان. الأولى مدمّرة والثانية موصلة. أمّا المدمّرة، فاعتقاد صاحبها أن مذلّته الجوهرية تمنحه حقّا في ادعاء كرامة شكلية أمام سيده. وأمّا الموصلة، فإدراك صاحبها أن الكرامة التي يمنحها ملك الغاب ليست أكثر من ورقة توت، قد تكبر أو تصغر حسب الظروف، ولكنّ دورها لا ينبغي أن يعدو في أي حال من الأحوال دور ورقة التوت. فهي تستر عورة التابعين عند رفع «القفة».
لقد ادعى رئيس الجمهورية أن خصومه لا يملكون اليوم ورقة توت يسترون بها عوراتهم. في الحقيقة، هذا الكلام يكون دقيقا إذا ما قيل عن أنصاره. فلعمري، إن رئيسنا حفظه الله كريم مع خصومه، بخيل مع أنصاره. وهو أبخل ما يكون بأوراق التوت. وإذا كان الأسد في غابه قد أصرّ على أصحابه كي يشاورهم في الأمر، فإن داعمي ما يسمى بقرارات 25 جويلية هم الذين يكادون يقبّلون يد سيدهم كي يمنحهم ورقة توت يغطّون بها عوراتهم ورغبتهم في استخدام الرئيس كمطرقة كسر عظام خصومهم. ولعلّ بعضهم ذهب في الإثم حدّ الطمع في الانقلاب أيضا على تلك المطرقة بمجرّد انتهاء دورها.
تخيّل أن تكون أحد فقهاء السلطان، وأن تدّعي ليلا ونهارا أنّك ديقراطي تحبّ دولة القانون وتكره الفساد. ثمّ هاهو ملكك يخرج عن صريح النصّ. فتضحي بشرفك وعلمك وسمعتك، بل وحتى بمعنى اسمك، من أجل أن تبرر له ما أتى. وكلّما ناظرك زملاءك وعدتهم بأنك لست من الذين يدعمون الديكتاتورية والحكم الفردي. وتقول: «انتظروا قليلا، وستأتيكم أمارات ذلك من صاحب السيادة نفسه».
في الحقيقة، في هذه الحالة أنت من ينتظر. ماذا تنتظر؟ ورقة التوت بطبيعة الحال. إن من يقف مثل هذا الموقف لا تتعلّق همّته إلا بشيء واحد. وهو أن يتكرّم صاحب السيادة عليه بحجج يستر بها عورات فقهه وضميره.
في الحقيقة، عادة ما لا يخيّب أصحاب السيادة آمال هؤلاء الصغار. فليس لأوراق التوت قيمة. ثم ما ضرّ أن يكون الأنصار أقوى حجة وأقلّ عريا. لكن ثمة من ملوك الغاب «الصادقين» من يبخل حتى بأوراق التوت. ولذا فختام القول: انتظري أيتها النفّاثات في العقد الدستورية».