بعد رفض اتحاد الشغل المشاركة في «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة» وتتالي الاعتراضات من أوساط حقوقية وأكاديمية وسياسية: الانفراد بالرأي والقرار طريق مسدودة !

يُقال إن «السياسة هي فنّ الممكن» لا بمعنى العجز عن تغيير الواقع ولكن بتوفير كل مقومات النجاح لفعل ما أو لتغيير ما ومن أهم مقومات

النجاح جذب المختلفين إلى صفك والحدّ ،قدر الإمكان ،من الخصوم والأعداء .
طريق الإصلاح كانت مفتوحة على مصراعيها أمام الرئيس قيس سعيد قبل 25 جويلية 2021 وخاصة بعده.. فخصومه (حكومة المشيشي وحزامها البرلماني الذي تقوده الحركة الاسلاموية) كانوا –ومازالوا- منبوذين من قطاعات واسعة من النخب ومن الرأي العام وكانت جلّ الأذهان مستعدة لمساندة حركة إصلاحية قوية شعبية للسلطة التنفيذية وحريتها وتضع البلاد على سكة العمل والاجتهاد وتبسط سلطة القانون وتخلق شروط النمو والتنمية العادلة..كل هذا كان ممكنا في إطار احترام الدستور وقوانين البلاد مع الدفع إلى تغيير جذري في الممارسة السياسية وفي إصلاح ما يجب إصلاحه من قواعد العيش المشترك سواء تعلق الأمر بالتنقيحات الدستورية أو بالقوانين المنظمة للحياة العامة ..

ولكن رئيس الدولة اختار أن يحول التأييد الشعبي الذي يحظى به إلى تنفيذ منفرد لمشروعه الشخصي، مشروع لا يعترف بالنخب وبالأجسام الوسيطة ولا يقبل إلا بالمساندة المطلقة وغير المشروطة ويعمل على تقسيم التونسيين إلى معسكرين متعاديين : معسكر الصادقين الأخيار ومعسكر الخونة أعداء الشعب ..
ويجب الاعتراف بأن إستراتيجية المرور بقوة قد نجحت إلى حدّ الآن وإلى حدّ ما ولكن عناصر كثيرة كانت تشير إلى حدود هذه الاستراتيجيا وأنها بلا أفق سياسي وغير قادرة على إصلاح حقيقي لفائدة البلاد والعباد..

أهم هذه العناصر هي الابتعاد المتواتر والمتفاوت للقوى التي ساندت بقوة التدابير الاستثنائية في 25 جويلية لأن الرئيس رفض تشريكها في التفكير والحوار اعتقادا منه انه في غنى عن الجميع وأن شعبيته كافية لإنفاذ المشروع الذي طالما حلم به ورفاقه خلال هذه العشرية ..ثم جاءت «الاستشارة الوطنية» والتي امتدت على أكثر من شهرين ورغم ذلك لم يشارك فيها سوى %5 من الجسم الاجتماعي المستهدف (التونسيون الذين تجاوزوا سن السادسة عشرة) ..

وتكاثرت الانتقادات والاعتراضات والاحترازات على المسار الذي خطّه الرئيس وطالبه الأصدقاء قبل الخصوم والداخل قبل الخارج بحوار سياسي واقتصادي واجتماعي شامل تتفق فيه أهم مكونات البلاد على مشروع جماعي لإنقاذ تونس من أزماتها المتراكمة والمتظافرة ولكن صاحب قرطاج رفض في كل مرّة اليد الممدودة فوسع من دائرة الخصوم ولم يبق في دائرة الأصدقاء سوى التابعين الخلّص،وحتى هؤلاء وجدوا أنفسهم خارج دائرة التفكير والقرار ..

إن الذي يركز بصفة مستمرة على الشرعية (légalité) والمشروعية (légitimité) يعلم قبل غيره أن الأساسي في كامل هذا المسار هو مشروعيته،أما شرعيته فقد تآكلت منذ البدايات ..والمشروعية تقتضي التشاركية الكاملة والواسعة لتجاوز المطبات الكثيرة التي ضربت في مقتل الشرعية ..
اليوم قد وصلنا فعلا إلى طريق مسدودة اذ لا يفصلنا سوى شهرين عن التاريخ المحدد للاستفتاء على الدستور الجديد وقد سقطت ورقة التوت عن آخر تسويق ممكن لتشاركية صورية بعد أن أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل المجتمع يوم أمس في هيأته الإدارية عن رفضه المشاركة في «اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية» وهي اللجنة الثانية في «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة» كما أن «اللجنة الاستشارية القانونية» المكلفة بإعداد مشروع دستور والمتكونة أساسا من عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية السياسية بالجمهورية التونسية قد تشهد اليوم بدورها رجّة ضخمة مع احتمال إصدار كل هؤلاء العمداء لبيان يرفضون فيه المشاركة في هذه اللجنة .

كم أضاعت البلاد من فرصة قبل 25 جويلية وبعده ! في السنوات الماضية كان السبب في ذلك أحزاب الحكم الفاقدة لكل برنامج والمتحالفة انتهازيا من أجل اقتسام «الكعكة» والحماية المتبادلة هذا إن لم يكن بعضها يهدف الى فرض التطرف الديني بالعنف أو بالأسلمة «الناعمة»، أما اليوم فها نحن نهدر الفرص الواحدة تلو الأخرى بحكم الإمعان في الانفراد بالرأي والإستبداد بالقرار وإعطاء الأولوية لمشروع طوباوي تحلم به مجموعة صغيرة تعيش خارج الآن والهنا على حساب البلاد والعباد..
ومع هذا نرفع صوتنا عاليا لنقول مرة أخرى إن باب الإصلاح مازال ممكنا شرط التخلي الكلي والنهائي عن الانفراد بالرأي وسياسة المرور بقوة.. ولكن الفرصة الأخيرة لن تدوم هذه المرة، سوى أيام قليلة آما لو أهدرت هي الأخرى فسيزج بالبلاد في مضيق قد لا تقدر على الخروج منه .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115