بعد الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية بـ75 نقطة أساسية: هل أخطأ البنك المركزي حقًا ؟

منذ أن رفّع مجلس إدارة البنك المركزي في نسبة الفائدة الرئيسية بـ75 نقطة أساسية (من %6.25 إلى %7.0) يوم الثلاثاء الفارط لم تجف

الأقلام ولم تنقطع الألسن عن التثمين أو النقد أو حتى التجريح بل والتخوين وحمّل متدخلون عديدون من المختصين في الاقتصاد ومن غير أهل الاختصاص البنك المركزي مسؤولية الصعوبات الجديدة المنجرة عن هذا القرار والتي قد تضرب في مقتل بوادر النمو المحتشمة في هذه السنة ..وقال أكثر المنتقدين اعتدالا انه كان بإمكان البنك المركزي أن يرفع بـ25 نقطة اساسية وأن ينتظر تطور نسبة التضخم والوضعية الاقتصادية العامة في الاشهر القادمة وذلك حتى لا يكون الدواء من نفس صنف الداء.
إن النقاش العام للسياسات النقدية خاصة والاقتصادية عامة مسألة محمودة وهي في جوهر النقاش الديمقراطي وآراء الخبراء وخاصة تحاليلهم مهمة للغاية لإنارة الرأي العام لأننا لسنا فقط أمام مسائل تقنية معقدة بل أمام خيارات وسياسات لها تأثير مباشر على حياة الأسر والمؤسسات الاقتصادية بل وأيضا على الدولة ككل..

نحن لا ننوي حسم النقاش ولا حتى مجرّد ترجيح رأي على آخر فهذه مهمة المختصين المطلعين بصفة جيّدة على السياسات النقدية في بلادنا وفي العالم كذلك ولكننا نريد فقط الإشارة إلى بعض المعطيات عساها تسهم في الحوار الضروري حول السياسات المالية للدولة بكل مؤسساتها ..حوار لا يمكن أن يقتصر فقط على المختصين ..

مرّة أخرى تثار مسألة استقلالية البنك المركزي ولدينا في تونس رأي يكاد يكون طاغيا في الساحة السياسية مفاده أن استقلالية البنك المركزي مضرة للمصالح الإستراتيجية للدولة وانه لا يستفيد منها سوى القطاع البنكي واللوبيات في الداخل والخارج وأنها كذلك مدخل لضرب سيادة الدولة النقدية والمالية والاقتصادية .

نحن هنا في مجال السجال السياسي والإيديولوجي،مجال ضروري ولاشك للحياة العامة ولكنه لا يطرح دوما الأسئلة الضرورية..
بداية كل البنوك المركزية في الدول الديمقراطية وحتى في غيرها أحيانا مستقلة،قانونا،عن السلطة التنفيذية وإن كانت هذه الاستقلالية سلبية لما تشبثت بها كبريات الاقتصاديات العالمية .

والاستقلالية تنتقد في تونس من بوابات ثلاث : الإقراض المباشر للدولة ودعم العملة الوطنية والتنسيق مع الحكومة في السياسة النقدية والانصياع في كل هذه المسائل إلى قرارات ورغبات السلطة التنفيذية.

لنفترض جدلا أن البنك المركزي مؤسسة خاضعة لوزارة المالية أو لرئاسة الحكومة،ولنفترض ثانية أننا أمام حكومة سياسية تعيش أوضاعا مالية واقتصادية صعبة وتفصلها عن الانتخابات القادمة سنتان مثلا وأن كل المؤشرات تفيد بأن الأغلبية الحاكمة ستنهزم لا محالة نتيجة هذه الأزمة التي لم تتمكن من معالجتها .

ماذا ستفعل هذه الحكومة لتحيين اصطناعي للأرقام حتى تسوق لانجازات وهمية ؟

ستهرف هذه الحكومة هرفا من مدخرات البنك لسداد ديونها الداخلية وحتى الخارجية وقد تسعى إلى زيادات في الأجور والمنح دون خلق ثروة مقابلة وقد تخفض في نسبة الفائدة الرئيسية حتى تستعيد شعبيتها لدى المؤسسات الاقتصادية ولدى سائر المواطنين..
في المحصّلة قد تتمكن هذه الحكومة من ربح الانتخابات القادمة ولكنها ستكون خرّبت التوازنات العامة للبلاد لعقود..

ما الذي يمنع أغلبية سياسية متكالبة على السلطة من استسهال كلي أو جزئي لـ«فانة» البنك المركزي ؟ لا شيء في الحقيقة ..

لذلك قررت كبريات الاقتصاديات العالمية والهيئات الدولية كذلك أن من شروط الحوكمة الرشيدة لدولة ما ألا تتصرف بصفة اعتباطية أو مصلحية آنية في السياسة النقدية وفي التوازنات النقدية لان ذلك يتجاوز عمر حكومة ما ولأن البنك المركزي لا يمثل خزينة للحكومة بل خزينة للدولة بما هي مصالح إستراتيجية تتعالى على ظرفيات الحسابات السياسوية الانتهازية .

فهل يعني هذا أن البنوك المركزية في العالم هي جزر مستقلة لا يعنيها ما يحصل في بلادها ؟ كلا على الاطلاق ،اذ لم يكن البنك المركزي التونسي في أي يوم من الأيام ومع مختلف المحافظين الذين تداولوا على إدارته في برج عاجي أو في موقع الشامت كما يتصور البعض ،بل اجتهد دوما وبتنسيق يومي مع مختلف مصالح الدولة كي يحافظ على التوازنات الدنيا للبلاد ولهذا السبب نجد أن الاحتياطي من العملة الأجنبية بقي رغم كل شيء في مستوى محترم (أكثر من 23 مليار دينار) بما يسمح للبلاد بمواصلة نشاط اقتصادي معقول..
يمكن أن نعيب على البنك المركزي سياساته الحذرة ولنتصور العكس : سياسات مجددة ومغامرة في نفس الوقت ..فماهو ثمن إخفاقها؟ إن لم يكن سوى إفلاس الدولة .ولا شيء غير ذلك!!
نأتي لموضوع التضخم والذي بلغ في الشهر الماضي %7.5 وهي أعلى نسبة منذ أربع سنوات.

ثم نحن نعلم أن الدولة بصدد الرفع التدريجي للدعم في المحروقات وفي الكهرباء والغاز وكذلك في مواد عديدة بحكم الانعكاسات الكبيرة للحرب الروسية على أوكرانيا ..يعني أن البلاد سائرة في دوامة تضخمية ستتجاوز ضرورة الرقمين وهو ما لم يحصل في تونس منذ عقود .
ماذا على البنك المركزي فعله والحال أن قانونه الأساسي يحتم عليه الحفاظ على استقرار الأسعار (أي التضخم) وعلى الاستقرار النقدي والتوازنات المالية الكبرى للبلاد (لا فقط للحكومة فالعجز التجاري ،مثلا، يدفعه البنك المركزي لا ميزانية الدولة ) هل يخفض في نسبة الفائدة الرئيسية أملا في انتعاشة قوية للاقتصاد ؟

ما لا يعلمه الكثيرون بما في ذلك بعض المختصين ربما أن الفارق بين نسبة التضخم (%10 مثلا ) وفائدة السوق المالية (%5مثلا) انه مدعاة للمضاربة المباشرة على العملة الوطنية عبر اللعب على الفرق الايجابي للمقترض (كلفة الاقتراض الحقيقي أي دون احتساب عامل التضخم – تصبح سلبية) فيستورد أضعاف احتياجات السوق من بعض المواد الأساسية القابلة للتخزين على مدى متوسط (سنتان أو ثلاث مثلا) وهذا الإقبال المتفاقم على العملة الأجنبية من اجل التوريد المربح يصاحبه حتما تراجع في قيمة الدينار فيزداد التضخم المستورد وتتراجع القدرة الشرائية لسائر المواطنين بصفة كارثية .
ثم إن نسبة فائدة حقيقية سلبية ستشجع الجميع على الكسل وعلى استسهال الاقتراض بدءا بالحكومة مرورا إلى كل الفاعلين الاقتصاديين ووصولا إلى سائر المستهلكين القادرين على الاقتراض.
هذه بعض عناصر المعادلة المعقدة أمام أعيننا..نحن لا نقول إن سياسات البنك المركزي صائبة ضرورة،فهذا محل نقاش وجدل،ولكننا أمام احد أهم أجهزة الدولة ولا نعتقد أن كل الكفاءات التي تؤثث البنك المركزي من ابسط إطار إلى المحافظ ومجلس إدارة البنك يشتغلون ضد مصلحة البلاد..فهذا هراء لا يليق بأي نقاش جدي..

نهاية الأزمة لا تكمن في السياسات النقدية للبنك المركزي – على أهميتها – بل في ضعف منظومات الاقتصاد الوطني وفي غياب شبه كلي لسياسة إصلاحية جدية.
عندما يشير احدهم إلى القمر،لا ينبغي أن نقصر نظرنا على الإصبع ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115