تونس ومعارك القيم

عادة ما كان يكتب تاريخ الأمم والشعوب بعد فوات الحقبة الزمنية موضوع الدراسة،وكان يُقال أن زمن التاريخ يحتاج إلى نوع من البرودة

ومن غياب الانخراط الذاتي في الصراعات التي تشق كل أمة وكل شعب .. ولكن تطور علوم الإنسان والمجتمع – والتاريخ من بينها – وهيمنة الصورة واختصار المسافات الجغرافية والذهنية أيضا جعلت كتابة التاريخ الحاضر أو الآني مسألة ملحة فتغيّرت جزئيا مادة التاريخ إذ لم تعد تقتصر فقط على الوثائق المكتوبة أو الآثار بأصنافها بل أدرجت كذلك الشهادات الحية وجملة من المعارف الاقتصادية والنفسية والاجتماعية لمقاربة تفهمية للآني وللحياة الراهنة لأمة أو لشعب ما..
كيف سنؤرخ لتاريخنا الراهن وما عسى الذاكرة التاريخية أن تحفظ من صراعاتنا وآمالنا ونجاحاتنا وإخفاقاتنا اليوم ؟ وما عسى أن تكون العناصر الباقية والمؤثرة في وجدان الناس وفي مناخاتنا الذهنية؟ ما هو الزبد الذي سيذهب حتما جفاء وما الذي سيبقى ليغذي اليوم وغدا أذهاننا بأفضل ما أنتجنا وأنجزنا ؟
سيكون من الغرور ادعاء القدرة على الإجابة على هذه الأسئلة ،ولكننا نقدم ما نراه بعضا منها وما نعتبره أفضل ما فينا وما نرجح انه سيغالب أدران الزمن وكل إغراءات الانغلاق والتقوقع حول الذات ..
لو نتجاوز قليلا اكراهات حياتنا اليومية وما يبدو فيها من قلق ومن شظف عيش ومن خوف على الحاضر والمستقبل يمكننا القول إن كل أجيال تونس بشيبها وشبابها ونسائها ورجالها وأيا كانت السمة الاجتماعية والعائلية لكل فرد ولكل مجموعة بشرية ..كل هذه الأجيال كانت شاهدة على حدث غير اعتيادي في تاريخ الأمم والشعوب : ثورة شعب أعزل ضد حاكم مستبد أفضت إلى رحيله وذلك بغض النظر عن تقييم السياقات والمالآت ،وبغض النظر أيضا عن رؤيتنا وتفسيرنا اليوم لما حصل خاصة وانه يصعب علينا جميعا تخليص الحدث المنبجس من السياقات التي أل إليها .
لا نرى أفضل تلخيص (بمعنى التكثيف لا الاختزال) لهذا الحدث سوى «ثورة الحرية والكرامة» اي في نهاية الأمر ثورة القيم وإعلاء لشأنها وانتصار لإنسانية الإنسان،انتصار لحقوقه وكرامته وحريته بل وحرياته ..
لاشك أن هذه اللحظة قد «حرّرت» أيضا أسوأ ما فينا فرأينا تطرفا وتعصبا وتكفيرا
وعنفا وإرهابا باسم قيم لا علاقة لها بالحرية وبالأنسنة (humanisme) وبحقوق الفرد وكرامته وبالتعددية الفكرية والفلسفية الضرورية لكل مجتمع يرنو إلى التحرر..
ولاشك أيضا أن بعض من كان يبدو انه مدافع شرس ضد التطرف والاسلمة القسرية أو الناعمة وانه من أنصار الديمقراطية والقيم الكونية إنما كان كل ذلك من اجل تموقعات جديدة لم تكن واضحة للعيان آنذاك ..
ولاشك أيضا أن القيم لا تجد أنصارا كثيرين زمن الأزمات واحتداد الصراعات وتحول الخصوم إلى أعداء والمطالبة بالفرز ولا شيء غير الفرز..
القيم تبدو يتيمة في زمن حرب الكل ضد الكل ، حرب قبائل تونس التي تنفي فيها كل قبيلة عن غيرها إنسانيتها وحقها في الوجود.
لقد أخرجنا أسوا ما فينا زمن الترويكا واذرعتها العنيفة وتساهلها وتواطئها مع الجماعات الإرهابية ..وأخرجنا أسوأ ما فينا أيضا زمن حكم بعض الحداثيين الذين أرادوا خوصصة الدولة ومؤسساتها وعبثوا بالبلاد وبمستقبلها ..وأخرجنا أسوا ما فينا زمن التحالفات الانتهازية وتقاسم كعكة الحكم والحماية المتبادلة للإفلات من العقاب وسوء التصرف في المال العام والانغماس في الصراعات السياسوية على حساب جموع التونسيين.
ونحن بصدد إخراج أسوإ ما فينا أيضا بالتخوين المتبادل وبالدعوات الصريحة أو الضمنية الى العنف وباحتكار الصدق والوطنية والديمقراطية ..
وليس كل هذا الا غيضا من فيض..ولكن كل هذا الزبد سيذهب جفاء.. وستبقى القيم الإنسانية النبيلة عالية على قلّة رافعيها والذائدين عنها ..
يكفي هذه البلاد فخرا أن بقيت فيها أصوات متعلقة بالقيم ومتعالية على منطق القبيلة ومدافعة عن الحق حيثما كان ..أصوات تقيس الناس بالحق لا الحق بالناس..
أصوات كثيرة على قلتها،تخطئ أحيانا في التقدير والتقييم ،ومن منّا لا يخطئ في تقديره أو تقييمه.،ولكنها لا تتيه وسط الزحام ولا تجعل للأحقاد عليها سلطانا،الحرية نبراسها والقيم سبيلها في الحياة ..
عندما يغلب الدجى نجد في هذه الأصوات منارات تنير لنا الطريق وتشعل في أفئدتنا شموع الأمل بأن القادم أفضل مهما تعاظمت جحافل الليل ..
هذه الكلمات مهداة إلى بشرى بلحاج حميدة وأمثالها من نساء ورجال وطني.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115