والتي اتخذت من اسالة الدماء وترويع الناس سببها الوحيد للسلطة أو للاحتجاج..
نحن لا نعيش في عالم ملائكي.. نحن نعيش في عالم يتخلله العنف في كل مكان وفي كل مجال: داخل العائلة وفي الشارع والمدرسة والإدارة والمؤسسة، والعنف عنصر من عناصر موازين القوى بين الأفراد والجماعات والأمم وهو كامن في أعماق الغريزة البشرية لأنه مرتبط، بنسبة ما،بام الغرائز وهو حب البقاء.. لذلك لا نتحدث عن إلغاء العنف بل عن ترويضه وتهذيبه وتصريفه بأقل الأشكال حدة وعدائية.
العنف في السياسة اصناف، بعضه مشروع وتمارسه الدولة وفق القانون ،بصفة حصرية وبعضه منظم كذلك ولكنه غير مشروع وتمارسه جماعات ارهابية أو مافيات وأحيانا بعض أجهزة الدولة عندما تنفلت من عقال القانون سواء برغبة ذاتية أو تطبيقا لتعليمات فوقية.
المبدأ العام في الديمقراطيات الحديثة والمعاصرة أن الحياة السياسية الداخلية محصنة من العنف بمقتضى القانون لانها تقصي من هذا المجال كل الجماعات العنيفة وتعاقب بشدة لا العنف المادي فقط بل وأجزاء كثيرة من العنف اللفظي..
ولكن بما أن السياسة مجال للتنافس فهي لا تخلو في كل ديمقراطيات العالم من الاحتقان ومن العنف اللفظي الذي يُترجم إلى واقع والاشكال هنا هو دوما في ترويض منسوب هذا العنف وجعله دون عتبة الخطر ..
وعتبة الخطر هنا واضحة وهي اعتبار الفرقاء السياسيين لبعضهم بعضا اعداء لا متنافسين أو مجرد خصوم والعداوة بينهم لا تحل إلا بالإلغاء الكلي أو الجزئي لوجود الغريم ،ولدينا في بلادنا وفي سائر البلاد العربية والاسلامية مصطلحان أساسيان للتعبير عن هذه العداوة الكلية: التخوين والتكفير.
في تونس الثورة ساد التكفير في السنوات الأولى ورأينا رأي العين كيف تحولت الكلمة الى لكمة واللكمة الى دم يراق،وكيف أن مناخ التكفير قد يسمح بترعرع جماعات العنف والارهاب وكيف نكلت هذه الجماعات بالبلاد والعباد وكم سفكت من دماء زكية طاهرة..
في تونس اليوم يسود بالأساس مصطلح التخوين وأحيانا يقرن بأشكال من التكفير تلميحا أو تصريحا، وحتى عندما تغيب هذه الكلمات عن خطاب الأعداء فتحضر عندهم مصطلحات أخرى كالفرز والحسم وباقي الترسانة اللفظية العسكرية والتي لا تدع للسلم والسلمية مكانا واحدا..
لا يمكننا ألا نلاحظ الارتفاع المطرد لمنسوب العنف اللفظي خلال هذه الاشهر الاخيرة في بلادنا وأن هذا النسق في تسارع مستمر مع اقترابنا من أول موعد مع الصندوق بعد 25 جويلية 2021 اي الاستفتاء الذي سيدعو اليه رئيس الدولة في الذكرى الاولى لتفعيل الفصل 80 وللتدابير الاستثنائية التي رافقته..
لا يمكن للملاحظ النزيه الا يرصد حجم الخطاب العنيف عند رئيس الدولة وعند انصاره وقوامه التخوين المطلق لكل مخالف ولكن النزاهة تقتضي ايضا الاقرار بارتفاع منسوب العنف اللفظي عند خصوم/اعداء الرئيس بدرجة اصبحت معها كل دعوة للعقل أو التعقل بلا أي رجع صدى.
الواضح عندنا أن منسوب العنف اللفظي قد تجاوز عتبة الخطر بمراحل عديدة بما يجعل تحويل الكلمة إلى لكمة واللكمة إلى دم يهدر مسألة جزئيات بسيطة قد تحصل دون تدبير مسبق ضرورة.
مسؤولية كل الأطراف جسيمة في هذه المرحلة الحرجة إذ يمكن أن يؤدي اي استفزاز إضافي إلى ما لا يحمد عقباه فكل من يدعو للنزول إلى الشارع تاييدا او احتجاجا عليه أن يتوخى أقصى درجات الحذر والحيطة والا يسمح باية عملية اندساس وان يحيط كل مظاهرة او وقفة احتجاجية أو مسيرة بلجنة نظام كثيفة العدد مهمتها الوحيدة منع كل اعتداء ايا كان بسيطا على الأشخاص والممتلكات.
وتبقى مسؤولية الرئيس كبيرة للغاية لأنه يمثل في نفس الوقت الدولة وطرفا سياسيا في حلبة هذا الصراع على السلطة وخطاباته الاخيرة والتي أراد من خلالها طمانة الرأي العام إنما تبعث على القلق والانشغال لحجم التخوين الذي احتوته.
رئيس الدولة مطالب بتهدئة النفوس وبخفض جاد لمنسوب التوتر في البلاد فهو ليس زعيم فريق هدفه الوحيد حشد وتعبئة الأنصار بل راس الدولة ورمز وحدتها وخطابه ينبغي أن يطمئن الجميع في الداخل والخارج وان يترك للقضاء وللقضاء وحده، معالجة ملفات الخارجين عن القانون.
لا ينبغي لاحد ان يتساهل أو أن يستسهل مربع العنف ولا ان يتلاعب بالسلمية المطلقة للحياة السياسية ولكن تحقيق كل هذا لابد لكل الخصوم /الأعداء من مراجعة عميقة للنفس وللخطاب فالعنف كامن في الاذهان ومحاربته ينبغي أن تكون في الاذهان قبل الاعيان.