مساحتها عن جلد ثور. ولكنها أسست قرطاج بعد أن صنعت من الجلد خيطا رفيعا أحاطت به أرضا شاسعة بنت عليها مدينتها التاريخية التي يحبّ التونسيون أن يرجعوا إليها بداية تاريخ يفاخرون بامتداده على ثلاثة آلاف سنة.
لا يكاد أحد في تونس يجهل هذه القصة. فأساتذة التاريخ دائما ما يرونها على مسامع التلاميذ كمقدّمة سرديّة قبل الشروع في دراسة تاريخ قرطاج. والعجيب أن الأغلبية الساحقة من الأساتذة والتلاميذ لا يلاحظون غرابة هذه القصة من جهة منطقها السردي. إذ تصوّر الحكاية حاكما متشدّدا في الحفاظ على أرضه. فحتى حين تنازل، ربّما تحت ضغط القوة، لم يتنازل نظريا إلا على بقعة لا معنى لها، تساوي مساحتها ما يغطّيه جلد ثور.
لكن في نفس الوقت، نجد هذا الحاكم يغيب تمام الغياب منذ لحظة الاتفاق تلك. وكأن تنازله عن تلك البقعة رديف لتنازله عن كل شيء. فبعد أن كان حريصا على أرضه، متشددا في الحفاظ عليها، اختفى أثره في السردية، وكأنه لم يعد مكترثا بما يفعله غزاته الفينيقيون. فإذا زعيمتهم تقرأ الاتفاق كما تشاء وتنفذه وفق ما تشتهي، دون أن تذكر السرديّة مقاومة أو ردة فعل، أو حتى احتجاج أو مجرّد استغراب.
في الحقيقة هناك ثلاثة أشياء في ما ذكرنا تدعو فعلا إلى الاستغراب. أولها جرأة علّيسة في التوسّع في تأويل الاتفاق. وثانيها خنوع المتضررين من هذه القراءة. وثالثها غياب الإشارة إلى هذين العنصرين في كل مرّة يأتي فيها ذكر هذه الأسطورة.
سيقال: ولكنها أسطورة، ولا ينبغي أن تفهم حرفيا. والجواب أننا نعلم ذلك تماما. ولكننا نعلم أيضا أن الأساطير عادة ما تحوي منطقا داخليا. دونه، تفقد الأساطير قيمتها كمرجعية تأسيسية أو معيارية.
لا نحسب أن أسطورة بناء قرطاج فاقدة لهذه القيمة. ودليل ذلك أن التونسيين فخورون بها وبأبطالها. ولعل اكتشاف المنطق الداخلي الذي سمح لهذه الأسطورة بالخلود يحتاج إلى الانطلاق من هذا الشعور بالفخر، خاصة أنه عنصر رابع يمكن أن نضيفه إلى ما ذكرنا من غرائب هذه السرديّة. إذ يصعب إيجاد ما يدعو للفخر في ما أقدمت عليه عليسة من تحيّل فجّ وما أظهره حاكم أوتيكا من خنوع ساذج، إلا أن يكون التحيّل الفجّ والخنوع الساذج هي بالتحديد مصدر الفخر في هذه الحالة.
للأسف، لا نرى لهذه المعضلة مخرجا منطقيا آخر. وبالتالي، وفي انتظار تأويل أفضل، نسلّم بالتالي: إن مردّ اعتزاز التونسيين بهذه الأسطورة يعود بالفعل لما فيها من تحيّل أقدمت عليه عليسة وخنوع أظهره حاكم أوتيكا.
قد يبدو هذا التأويل مستهجنا للوهلة الأولى. ولكنه يتضمن محاسن ليس أقلّها أنه يسمح بالإجابة عن كل نقاط الاستغراب التي ذكرنا آنفا. إذ يرفع هذا التأويل حرج غياب استغراب التونسيين من الأسطورة التي يفترض أن قرطاج قد نشأت على أساسها. فإذا كان اللاوعي الجماعي فينا يقبل بأن السلطة تنشأ من تحّيل المنتصر وخنوع المنهزم، فلا داعي للاستغراب. وإذا كان الضمير الجماعي لا يؤنّب الشعب عند التلاعب بالنصوص القانونية، فلماذا تتورّع عليسة أو غيرها عن تأويل الكلام وفق مشيئتها وما يخدم سلطانها؟
قد يقال: ولكن ماذا عن حاكم أوتيكا؟ ما رمزيّة غيابه الخانع عند تطبيق الاتفاق مع عليسة، بعد أن كان أبدى تصلّبا عجيبا حين وضع شروط الاتفاق؟ والجواب أن مثله كمثل أولئك الذين تشدّدوا في تقييد السلطة التنفيذية وفي دعم السلطات المضادة لها حين وضع دستور 2014، وذلك بدعوى التحوّط من خطر عودة الاستبداد. أليس لنا أن نسأل بعد 25 جويلية: أين كان معظم هؤلاء حينما أقدم صاحب السلطة التنفيذية على ما يسمّى اليوم بقراءته التوسعيّة للفصل الثمانين من الدستور؟ ثم أين هم الآن وهو يراكم السلطات كلها، لا فقط التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، ولكن أيضا السلطات التأسيسية الأصلية الواضعة للدستور، والفرعية المؤوّلة له، دون حاجة بعد كل ذلك لذكر الاستحواذ على السلطات الرقابية من خلال إلغاء الهيئات الدستورية أو تدجينها أو التصريح بالعزم على تعيين أعضائها وإعادة صياغة تركيباتها.
لعل اللبس الذي تتضمنه أسطورة عليسة يكمن في الخلط بين حقيقة عليسة وحقيقة حاكم أوتيكا. فكلمة حاكم أوتيكا تحيل على القوة. أما عليسة، فتفترض الأسطورة أنها ضعيفة بما أنها قبلت برقعة جلد الثورة. ولكن، هل كانت عليسة ضعيفة فعلا؟ طبعا لا. لو كانت كذلك لما استطاعت أن تفرض ما أرادت حين حوّلت الاتفاق الأصليّ إلى مجرد أداة استخدمتها لإضفاء المشروعية على التحيّل.
ثم من هو حاكم أوتيكا؟ في الحقيقة، لا أحد يعلم عنه شيئا. ولكنّ خنوعه الساذج بعد حماسته المفرطة تذكّر بردّات فعل الشعوب. وهو ما يعني أن الأسطورة ربما لم تكن تتحدث عنه باعتباره حاكما بالمعنى الفعلي للكلمة. بل إنها قد تشير إليه فقط باعتباره صاحب سيادة بالمعنى المعياري للكلمة. أي أن الحاكم يرمز في الأسطورة للشعب. أو لعل المقصود هي النخب بمختلف أصنافها.
في كلتا الحالتين، يصبح تأويل الأسطورة المذكورة واضحا. بل إننا اليوم شهود على تكرارها. فهاهو خليفة عليسة يتربّع على عرش قرطاج، فيؤوّل النصوص كما يشاء ويشتهي. وهاهي النخب خانعة جلّها، عاجزة حتى عن مجرد إنشاء جبهة موحّدة لضمان استمرار وجودها. تفعل ذلك بعد أن كانت بالغت في التشدد عند كتابة النصوص التأسيسية بدعوى تقييد الحاكم، كي تستسلم بعد ذلك بحجّة أو دون حجّة.
أما الشعب، فهو الحاضر الغائب، تماما كحاكم أوتيكا. هو صاحب السيادة، ولكن بشرط أن لا يخالف إرادة الفرد المؤسس والمشرع الوحيد والمنفّذ المطلق وقاضي القضاة ومسند شهادات الصدق والوطنية. عاشت تونس أبد الدهر سعيدة بقراءاتها التوسعية.