في الحقيقة بورقيبة أكبر بكثير من كونه قائدا لحركة التحرر ومؤسسا للدولة الحديثة لأنه يمثل دون أدنى مبالغة أهم شخصية في تاريخ تونس على الإطلاق لا بالنظر إلى خصاله الشخصية ،إذ نجد له في هذا أندادا قد يبزونه في مجالات عدة ،بل بالنظر إلى أثره العميق في واقع التونسيين وفي أذهانهم إذ نكاد نجزم أن إسهامه في ما يمكن أن نسميه بالشخصية التونسية إسهام لا يضاهيه فيه أحد..
ينتمي الزعيم الراحل إلى طينة نادرة من القادة الكبار وقد حمل مشروعا كبيرا للوطن مع القدرة على تعبئة جلّ الناس حوله وتنفيذه لا فقط في الواقع المادي للبشر بل كذلك في اذهانهم ومشاعرهم وطرق تفكيرهم وهذا ما ينجح فيه كبار الزعماء عبر التاريخ نادرا ..
ما نقوله لا يدخل مطلقا في خانة التقديس أو التحنيط فالحبيب بورقيبة رجل سياسي له عيوب كثيرة ليس اقلها تركيزه لنظام حكم فردي أحاط فيه نفسه بهالة تشبه القداسة الدينية،كما أن عهد حكم بورقيبة اتسم،فيما اتسم به،بالمحاكمات السياسية وبتعذيب المعارضين في السجون وبعمليات قمع شنيعة تسببت في موت المئات من التونسيين خاصة في 26 جانفي 1978 وفي أحداث ما سمي بانتفاضة الخبز في جانفي 1984،كما انه رغب في تأبيد حكمه بفرضه لتنقيح الدستور ليكون رئيسا مدى الحياة ثم إضاعته الفرصة تلو الأخرى لانفتاح النظام السياسي بدءا بطرد الجناح الديمقراطي داخل الحزب الحاكم في بداية السبعينات ثم سماحه بتزوير مكثف للانتخابات التشريعية في نوفمبر 1981..
بورقيبة سياسي مارس السياسة بإيجابيات عصره،وعيوبه كثيرة اقر هو نفسه ببعضها ولكن الأساسي في بصمة الزعيم الراحل في تاريخ وفي هوية تونس تتجاوز هذا البعد السياسي بأشواط - حتى - خصاله الكبيرة ودهاءه والتي فاق فيها كل معارضيه من أصدقاء وخصوم وأعداء ..هذه الخصال بدورها سيتلاشى ذكرها تدريجيا في قادم العقود والأجيال أما الأثر الباقي لعقود طويلة فهو تلك الرؤية الإصلاحية الكبيرة التي حلم بها للبلاد وهي ما تزال تحت نير الاستعمار ثم عمل على تأكيدها وترسيخها في حياة التونسيين مع دولة الاستقلال والتي بها نقل المجتمع التونسي من تقليدية متهاوية إلى حداثة تتأسس على العلم والعقل والاعتزاز بالوطن والنظر الى المستقبل بمنهج صارم يقوم على تثوير البنية الأسرية وتحرير نصف المجتمع من الأوضاع الدونية المتوارثة وتعليم عصري وانفتاح اجتماعي ودولة اجتماعية براغماتية .
أما إنجاز بورقيبة الأعظم فهو في نظرنا جعله من تونس ومن التونسة لبّ الحداثة وافقها،أي أن تونس لم تعد جزءا من محيط يتجاوزها بل هي هوية مكتملة ومتماسكة تنسج من هذا المنطلق علاقات شراكة وأخوة وصداقة مع محيطها في أبعاده المغاربية والعربية والإفريقية والإسلامية والمتوسطية وهذه هي الأبعاد الخمسة التي طالما أكد عليها الزعيم الراحل في كل خطبه عندما عرّف الأبعاد الداخلية / الخارجية للهوية التونسية ..
لهذه الأسباب ،ولغيرها ،انتصر الحبيب بورقيبة حتى بعد خروجه من السلطة وبعد مماته إذ كان اليافطة الأساسية التي هزمت حكم الترويكا عامة والحركة الإسلامية خاصة في الانتخابات التشريعية والرئاسية لـ2014..وانتصارات بورقيبة لن تتوقف عند هذا الحدّ واستحضار صورته وأثره في الصراعات السياسية وفي الاختيارات المجتمعية سيتواصل بدوره لعقود طويلة ..
بكل هذه المعاني يمكن أن نقول أن البورقيبية هي جوهر المشروع التونسي وهي ملك مشاع بين «البورقيبويين» (les bourgibistes) الذين لا يرون في الزعيم الراحل إلا الخير كله وفي كل المجالات وخصوم وأعداء بورقيبة الذين لا يرون فيه إلا الشرور والآثام رغم كونه قابع فيهم إلى النخاع وبين البورقبيين(les bourguibiens) الذين يؤمنون ان بصمة الزعيم الراحل لن تتأكد إلا بنقد بورقيبة مع المضي قدما في الأفق التاريخي الذي فتحه الزعيم أمام البلاد ..
إن أعظم الانتصارات هي انتصارات الفكر والروح لا انتصارات الحكم والسياسة.
تونس وبورقيبة والبورقيبية
- بقلم زياد كريشان
- 09:10 07/04/2022
- 749 عدد المشاهدات
أحيت تونس يوم أمس الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الزعيم الحبيب بورقيبة قائد حركة التحرر من الاستعمار ومؤسس الدولة التونسية الحديثة..