بين الخلية الحية وجسم الإنسان من حيث التشعب والتعقد وتعدد الوظائف والمهام ..
لهذا لا توجد أولوية واحدة للدولة في الحالات العادية مهما كانت الاختلالات، ولكن يتغيّر الوضع عندما يصبح الجسم الاجتماعي مهددا بصفة حيوية في وجوده إما بحرب أو بمجاعة أو بكوارث طبيعية مدمرة ..
لاشك أن بلادنا بعيدة عن كل هذه المخاطر الآن فالدولة عندنا مازالت قادرة على الإيفاء بأهم تعهداتها الداخلية والخارجية رغم الأزمات الهيكلية المعقدة والمتظافرة التي تعيشها تونس اليوم والتي يعود جلّها إلى عقد أو إلى عقود ماضية.. ولكننا نقترب بصفة متسارعة من نقطة التقاء كل هذه الأزمات وحينها يصبح الجسم الاجتماعي مهددا لا في كينونته بالضرورة ولكن في الحد الأدنى الذي يوفر له شروط الحياة السليمة وفي قدرته على التأقلم السلمي مع الأزمات القادمة..
ماذا تعني نقطة التقاء الأزمات ؟ تعني بداية أن تتجمع كل الأزمات في مربع واحد : أزمة المالية العمومية أي ديمومة الإنفاق العمومي مع أزمة الاقتصاد الحقيقي، أي القدرة على خلق القيمة المضافة الضرورية والأزمة الاجتماعية بأبعادها الثلاثة : تنامي الفقر والبطالة وغلاء المعيشة ..ثم انعكاس هذه الأزمات على الدولة والمؤسسة الاقتصادية والعائلة فتصبح هذه المؤسسات الثلاث المهيكلة للعيش المشترك عاجزة عن أداء أدوارها الدنيا والإيفاء بتعهداتها الأساسية فتتراجع قدرتها وتقوى عناصر التآكل فيها ..
لسنا أمام صورة كارثية بل أمام المآل المحتوم لكل دولة صغيرة محدودة الموارد الطبيعية - كتونس- لم تعالج أزماتها في الإبان ولم تسع الى حماية الجسم الاجتماعي قبل فوات الأوان ..
لدينا في تونس المعاصرة تجربة مريرة مازالت راسخة في أذهاننا وهي أحداث ثورة الخبز سنة 1984 عندما تمت مضاعفة ثمن الخبز وجملة من المواد الأساسية نظرا للصعوبات المالية الضخمة للدولة آنذاك..وكانت النتيجة مئات القتلى اثر تحركات احتجاجية في كامل تراب الجمهورية تحول بعضها إلى عمليات سرقة ونهب وتدمير للممتلكات الخاصة والعامة ..
في المحصلة عندما يشعر التونسيون بأنهم مهددون في عيشهم وفي قوت أبنائهم عندها نكون في الساعة الخامسة والعشرين ..تلك الساعة التي يغادر فيها الجرذان السفينة لأنهم يدركون قبل البشر بأن الغرق هو المآل المحتوم.
مؤشرات الاقتراب من هذه الساعة الخامسة والعشرين كثيرة في تونس بدأ بعضها قبل الثورة وتفاقم جلّها بعدها وأخطأ مسار 25 جويلية في إيقاف هذا النزيف لخطإ في التشخيص الأصلي ..
مشكلتنا الأساسية والتي لا نريد الاعتراف بها بصفة جماعية هي أننا نستهلك أكثر ممّا ننتج وأن كل أزمات حكومات ما بعد 2011 زادت بسوء الحوكمة وبجبن الاختيارات وبانعدام الكفاءة في حالات عدة في مخاطر هذا الانخرام فازدادت الهوة اتساعا بين إنفاقنا وإنتاجنا إلى أن أصبح التداين مهددا لكل توازناتنا ..وإذا أضفنا إلى كل هذه العوامل الهيكلية الظرفيات غير الملائمة لنا في هذه السنوات الأخيرة بدءا بالضربات الإرهابية الموجعة سنة 2015 وصولا إلى الحرب الروسية على أوكرانيا مرورا بجائحة الكوفيد.. كل هذا عمق من أزماتنا وجعلنا أمام خيارات مرة لم نقدر – إلى حدّ الآن – على الحسم فيها .
لقد عبّر البيان الأخير لمجلس إدارة البنك المركزي يوم 14 مارس الجاري عن بعض هذه المخاوف عندما قال انه «في غياب اتخاذ القرارات المناسبة بصفة عاجلة، من شأن ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الأساسية وللطاقة، وتقلص النشاط لدى أهم الشركاء التجاريين إضافة إلى المناخ المتسم بالضبابية أن يؤدي إلى تفاقم العجز الجاري ويزيد من الضغوط التضخمية خلال الفترة المقبلة» وستكون نتيجة كل ذلك أن تتعقد ظروف حياة اغلب التونسيات والتونسيين وأن يزداد عجز الدولة عن القيام بأدوارها في تزويد الأسواق وتعديل الأسعار وخلق الظروف الدنيا لديمومة النشاط الاقتصادي الوطني ..
لا يهم اليوم التقييم السياسي لهذه الحكومة أو إلى مآلات المشروع السياسي لرئيس الدولة ..المهم اليوم هو الوعي باقتراب الساعة الخامسة والعشرين وان ذلك يقتضي تحولا جذريا في طريقة معالجتنا لكل هذه الأزمات الهيكلية والظرفية..
مازال الإصلاح ممكنا ولكن شروطه تعسر وتتعقد يوما بعد آخر.