والإنجاز وهكذا نعدم جزءا من الزمن لأننا أعدمنا جزءا من الفعل والعمل والحركة.
فقتل الوقت يتناغم تماما مع وضعية اللافعل واللا حركة ..وضعية الانتظار السلبي التي ترنو إلى تجميد عقارب الساعة ..
لهذه الصورة الضاربة في الزمن أوجدنا صورة أخرى تؤدي نفس المعنى ولكن بمشهدية مختلفة ينطبق عليها المثل الشعبي التونسي «الحركة وقلّة البركة» أي ذلك النشاط الحثيث دون هدف ودون مردود ودون غاية تذكر،فأصبحنا نقتل الوقت بالركود التام حينا وبالحركية المفرطة العبثية أحيانا أخرى،والنتيجة واحدة في كلتا الصورتين : مراوحة في نفس المكان.
يبدو أن الجامع بين كل السياسات العمومية بعد الثورة هو قتل الوقت بالحركية المفرطة العبثية ..أحيانا نخطو خطوة إلى الإمام ثم سرعان ما نردفها بخطوة إلى الوراء فخطوة نحو اليمين ثم خطوة نحو اليسار والنتيجة أننا بعد جهد جهيد نعود إلى نفس المكان ولا نتقدم في أي اتجاه..
سواء أ اخترنا الركود المطلق أو الحركية المفرطة العبثية فإننا ننطلق دوما من مسلمة أن الزمن ليس قيمة في حدّ ذاته وأنه لا يملك سوى أن ينتظرنا وانه بإمكاننا دوما أن نعوض ما فاتنا وقت ما نشاء وكيفما نشاء ..
منذ سنة 2011 تستهلك تونس أكثر ممّا تنتج كما أن نسق عيش الدولة ارفع بكثير من إمكانياتها الفعلية والدولة توزع ثروة لم تخلقها بالاعتماد على الاقتراض فالاقتراض متوهمة بأن الآلة الاقتصادية سوف تنطلق بأقصى سرعة وأننا سنخرج من الدائرة المفرغة للاقتراض دون عناد..
ثم أصبحنا نطالب بـ«الإصلاحات الموجعة» منذ سنة 2014 ولكننا لم نقدم على أي إصلاح جدي في هذه البلاد منذ ما لا يقل عن العقدين.
كان كل شيء يدل على أننا نقترب بقوة من ساعة الحقيقة شهرا بعد آخر ومن سوء حظنا جاءت الضربات الإرهابية في سنة 2015 ثم الانكماش غير المسبوق سنة 2020 نتيجة جائحة الكوفيد 19 لتجعلنا في مواجهة مباشرة مع كل هذه التراكمات السلبية ومع كل هذا الزمن «المقتول»، ولكننا مرة أخرى نختار طريقا جديدة «غير مسبوقة» نتفنن فيها بقتل الوقت مجددا بتوجيه الأنظار نحو أوهام جديدة وبالإنكار المستميت للأبعاد الفعلية للأزمات العميقة التي تعيشها بلادنا منذ سنوات طويلة والتي التقت كلها الآن: عجز عن انجاز ميزانية 2022 دون الاتفاق الآن على قرض ممدّد مع صندوق النقد وهذا دون اعتبار المخلفات الجديدة السلبية للغاية للحرب الروسية على أوكرانيا ..ثم استحالة الخروج على الأسواق العالمية نظرا لتدني ترقيمنا السيادي مع اضطراب كبير في تزويد السوق بالمواد الأساسية ..
ماذا فعلنا إزاء كل هذا ؟ استشارة الكترونية لتغيير قواعد اللعبة ولتأبيد الاستثناء ثم فتح «حرب» على المحتكرين والمضاربين لترسيخ الفكرة الساذجة التالية : حال البلاد لن يصلح إلا بنظام سياسي ودستوري جديد يعطي بصفة نهائية كل الصلاحيات لرئيس السلطة التنفيذية و«تطهير» البلاد من كل الفاسدين أو المناوئين وهكذا سيعم الازدهار والرخاء ..
لا يهم الآن الحكم على نوايا الحكام فقد يكونون صادقين ولكنهم في كل الحالات غير مدركين لطبيعة التحديات الجاثمة اليوم على اقتصاد البلاد ولا هم يملكون مفاتيح الحلول العاجلة للتقليص من آثار هذا التسونامي القادم على عجل،فهمهم الوحيد هو البقاء في الحكم والاستمرار فيه كما كان حال كل سابقيهم،ولكن بحركية مفرطة عبثية مختلفة ترفع كثيرا من سقف التوقعات وتمهد حتما إلى موجة عارمة من خيبات الأمل ..
الطريق إلى الحلّ تبدو سهلة إلى حدّ ما: كل لحظة تضيع في الصراعات الوهمية هي لحظة تخسرها البلاد ولن تقدر على تعويضها هذا أولا، أما ثانيا وأساسا فوحدها البلدان ذات الجبهة الداخلية القوية هي التي تمكنت من تجاوز الصعاب بالاعتماد على العقل والعمل فقط لا غير..
صحيح أن طريق العقل والعمل كلها تعب وعرق أما طريق الأوهام فجميلة خلابة ولكنها اوهن من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون .