أزمة تزويد السوق و«الحرب» على الاحتكار

أعلن رئيس الدولة يوم أمس عند استقباله لرئيسة الحكومة عن بداية انطلاق «الحرب» على الاحتكار انطلاقا من الساعة الصفر التي تمّ تحديدها وأن هذه الحرب لن تكون حملة

سياسية كسابقاتها بل سياسة دولة متواصلة ومسترسلة ..
في كل «حرب» هنالك عدو كما أن هنالك أهداف حرب.. الجديد هنا أن العدو ليس هو المحتكر العادي الذي يسعى لربح سريع غير مشروع بل هي «شبكات منظمة الهدف منها تجويع المواطنين وضرب السلم الأهلية لغايات سياسية مفضوحة لا تخفى على أحد».
الهدف إذن هو تفكيك هذه الشبكات وتقديم العقول المدبرة وعناصر التنفيذ إلى القضاء والذي سيتولى تبعا لذلك كشف الجهة أو الجهات السياسية التي تقف وراء هذه المؤامرة على قوت التونسيين.
كل هذا يعني أن الكميات التي ستحجز لا تمثل غاية في حدّ ذاتها بل هي فقط عنصر مادي لإثبات هذه الغايات الإجرامية .
إعلان «الحرب» على الاحتكار والمضاربة من هذه الزاوية سيفرض على السلطة السياسية إقامة الحجة،بواسطة القضاء، أن هدف المحتكرين والمضاربين يتجاوز هدف الربح السريع غير الشرعي وأننا إزاء خطة سياسية تستهدف الدولة عبر تجويع المواطنين ودفعهم إلى الاحتراب ..
بعبارة أوضح سيكون رئيس الجمهورية أمام حرج كبير إذا لم تتمكن قوات الشرطة والديوانة والرقابة الاقتصادية من وضع اليد عل هذه الشبكات الاحتكارية/السياسية/التآمرية وهنا لا يكفي مطلقا تعداد عمليات المداهمة والكميات المحجوزة،لأننا سنكون في وضعية الحال أمام عملية عادية لمصالح الدولة لمقاومة الاحتكار والمضاربة.
سوف ننتظر جميعا الأسابيع القادمة لنرى ما يدعم أو ما يفند المقاربة الرئاسية في «الحرب» على الاحتكار.
يبقى الإشكال الأهم ، وهو الاضطراب الكبير في توزيع بعض المواد المدعمة وحتى غيابها في مناطق عديدة كالزيت النباتي والسكر والأرز والفرينة والسميد وتأثير ذلك على منظومة الخبز،والسؤال هنا هل أن الحجز المرتقب لما يخزن عند المحتكرين والمضاربين سيكفي لتعديل السوق أم لا؟
للإجابة الأولية عن هذا السؤال ينبغي أن نقيم نسبة الكميات المحجوزة على امتداد شهر مثلا مع معدل الاستهلاك الشهري..إذا كان المحجوز دون %5 فنحن أمام كميات محدودة للغاية أما لو تجاوز %15 أو %20 وأن هذه الكميات تبقى صالحة للاستهلاك وانه سيتم ضخها مباشرة في الأسواق سنكون أمام سياسة ناجعة تثبت أن الاحتكار يمس بصفة ملموسة من سلامة التوزيع.

نحن ننتظر إذن مرور شهر كامل على بداية هذه العملية لنقدر بصفة أولية مدى نجاعتها وما يمثله الاحتكار المكتشف من وزن فعلي في السوق التونسية.
نقطة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وهي الجواب عن السؤال التالي : لماذا يحتكر المضاربون المواد الأساسية المدعمة ؟ هم لا يطمعون طبعا في رفع قانوني للأسعار بل يشتغلون على مستويين : خلق الندرة في الأسواق لبيع هذه المواد خاصة (الزيت النباتي والسكر والفرينة والسميد) للصناعيين بأسعار مرتفعة تكون ما بين السعر القانوني المدعم والسعر الحقيقي غير المدعم وأحيانا بأرفع منه استغلالا لحاجة الحرفيين إلى هذه المواد الأساسية ونحن هنا أمام حالة تقليدية للسوق السوداء ..
الوضعية الثانية هي تهريب هذه المواد عبر الحدود وبيعها في ليبيا أو في الجزائر بأسعار أرفع بكثير من السعر المدعم لكن هذا الصنف من التهريب يحتاج إلى شبكات معقدة ومحكمة لتجميع السلع ونقلها في شاحنات عبر الحدود البرية أي كذلك إلى شبكة من التسهيلات التي تقدمها بعض مكونات السلطة المحلية والأمنية.
نحن أمام شبكات الاحتكار والمضاربة والتهريب الكلاسيكية والتي تواجهها البلاد منذ عقود مع تفاقم واضح خلال هذه العشرية الأخيرة ولا نعتقد أن هذه الشبكات معنية بقلب نظام الحكم أو بتجويع التونسيين بل هي شبكات إجرامية تبحث عن الربح السريع والقوي وهي تبحث عن حماية بعض العناصر في الأمن والديوانة حتى تستمر «تجارتها» دون كبير خسائر ..

لاشك أن مقاومة جدية وفعلية لهذه الشبكات والقضاء على بعضها وتفكيك كل ما يمكن تفكيكه من شأنه إن يجنب البلاد خسائر هامة وأن يحدّ،ولو جزئيا ،من حاجتنا إلى التوريد..
يبقى أن مسألة إغراق الأسواق في وقت قصير بهذه المواد هو وحده الكفيل بإرجاع الثقة إلى المستهلك وحثه على سلوك عقلاني عادي لمقتنياته من هذه المواد أو من غيرها وهنا نكتشف عدم استعداد الدولة بما فيه الكفاية لهذه الوضعية وعدم توفر المخزون الضروري للقيام بهذه العملية ..
نهاية، تعيد هذه الأزمة طرح مسالة التعويض في المواد الأساسية بصفة جدية إذ خلقت البلاد منظومة اكبر المستفيدين منها هم المحتكرون والمضاربون والمهربون ..ونحن هنا نحتاج إلى حلول جدية وجذرية وعادلة وننتظر من هذه الحكومة – كما انتظرنا من سابقاتها – تصورا متكاملا ومرقما لهذا الإصلاح الضروري..
الدولة أمام تحديات كبيرة في هذه المسالة بالذات ولكن تحويلها إلى «حرب قد يزيد في الإرباك العام دون تقديم الحلول الجدية المطلوبة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115