من قبيل «الصدفة»؟، وما السبب وراء اهتمام الرئيس بـ«مراقبة تمويل الجمعيات» والحال أنّ الآلية موجودة وغير معمول بها؟
يدفعنا الأمر إلى التساؤل حول طبيعة العلاقة بين «الدولة» و«المجتمع المدني»: هل هي علاقة مبنية على احترام مبدإ التشاركية والتعاون أم التصادم؟ وهل تغيرّت طبيعةُ هذه العلاقة بعد 25 جويلية؟
لاشكّ أنّ الناظر في صلة الدول بالمجتمع المدني يتفطّن إلى تعدّد التجارب وتفاوتها من بلد إلى آخر وفق نظام الحكم والإرادة السياسية لأعضاء الحكومات، ومدى إيمان الفاعلين بالديمقراطية التشاركية وممارسة المواطنة التامة كذلك مدى قدرة الناس على الصمود أمام الأنظمة الدكتاتورية. ومن هنا لم تكن هذه العلاقة ثابتة بل ديناميكية إذ خضعت للتطور والتغيير وعرفت في بعض الفترات مواجهات حادّة.
وينطبق هذا الأمر على الحالة التونسية إذ انتقلنا من دولة كانت تروّض الأفراد وتتحكمّ في الحركات الاجتماعية ولا تعترف بالمجتمع المدني إلاّ لماما، إلى دولة مجبرة على مواكبة التحولات المعرفية في العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية..، ومسايرة ''الروح الثورية' ومصغية إلى نبض الشارع ومطالب الجموع المنادية بالتغيير في تصوّر بنية العلاقات، وتنظيم الشأن العامّ وإرساء علاقة تشاركية بين الدولة والمجتمع المدني بجميع مكوناته.
ولا يمكن أن نغفل عن الوعي المجتمعي الذي ساد بعد «الثورة» والذي أبرز مدى تحمّس التونسيين/ت للاضلاع بأدوار متعدّدة (المراقبة، الضغط، التوعية، دعم الحريات وإصلاح التشريعات...) خدمة للمصلحة العامة وترسيخا للمواطنة المسؤولة. ولعلّ الدور الذي نهضت به بعض الجمعيات أثناء أزمة كوفيد19 كفيل بأن يوضّح الإرباك الحاصل في أداء الدولة إذ لجأ المتضرّرون وأصحاب الهشاشة إلى الجمعيات طلبا للمساعدة بعد أن تبيّن لهم أنّ الدولة غير قادرة على حمايتهم وتوفير أبسط الخدمات لهم.
كما لا يمكن أن نتجاهل دور المجتمع المدني بعد 25 جويلية في التواصل وفتح ورشات تفكير كثيرة حول طبيعة الإجراءات والمراسيم ووضع الحريات ومسؤولية الأحزاب وغيرها من المواضيع التي أثبتت أنّ مكونات من المجتمع المدني لازالت صامدة ومصرّة على العمل رغم قلّة الموارد وصعوبة السياق .
ولكن هل كانت هذه العلاقة التشاركية داعمة دائما للمسار الديمقراطية وموظفة لتحقيق الصالح العامّ؟
لاشكّ أنّ مراجعة تاريخ ما بعد «الثورة» توضح أنّ نشأة بعض الجمعيات والنقابات الخاصة وغيرها قد أدّت إلى ضرب تجربة «الانتقال الديمقراطي» في العمق إذ انحرفت عن المطلوب وصارت جسر عبور لخدمة شبكات التسفير أو الإرهاب ... أو وسيلة لتحقيق مصالح خاصة والاستثمار والاستغلال و... ومن هذا المنطلق كانت المطالبة بمراقبة تمويل الجمعيات متنزلة في إطار رغبة المجتمع المدني بالدرجة الأولى في كشف عمليات التزييف والتلاعب والهيمنة الخارجية والاستغلال الحزبي وفي الوقت ذاته، الدفاع عن الأهداف والمبادئ الحقيقية التي يلتزم بها كل من انضوى تحت المجتمع المدني.
ولكنّ انحراف عدد من الجمعيات عن المسار، وانخراطها في أعمال تضرّ بالمصلحة العامّة لا يسوّغ لأي طرف اتهام كلّ المنتمين إلى مختلف مكوّنات المجتمع المدني بالفساد أو التواطؤ مع جهات أجنبية... فكلّ تعميم يؤدي إلى شيطنة المجتمع المدني ، وضرب مصداقيته والتنكّر للأعمال الجليلة التي قدّمها الفاعلون الجمعاويون والحقوقيون لفائدة الوطن والتي جعلت العالم يمنح تونس جائزة نوبل للسلام. إنّ ضرب المجتمع المدني ليس إلاّ محاولة لقطع الوصلة وفكّ الارتباط بين الدولة والمجتمع المدني بدعوى أنّ «الآخر هو الجحيم»، وأنّ المعارضة لا يمكن أن تكون إلاّ هدّامة، ومن ثمّة وجب حصر دور الجمعيات في أضيق الحدود.
ونحسب أنّه يجب التذكير بأنّ الدولة كيان قام بالأساس بهدف منع علاقات القوّة والتوحّش، ومع ذلك فإنّه كان كيانا قابلا لتكريس بنى الهيمنة والتوحّش متّى حرص الحاكم على احتكار كلّ السلط بدعوى الإصلاح وتحقيق الخلاص الجماعي وتحقيق العدل في الأرض.