تونس السعيدة بصولاتها

هي قصة معلومة: حكاية الراعي وهجمة الذئاب. تكفي بضع كلمات للتذكير بها وبعبرها. هو راع كلّفته قريته بحماية أنعامها. ولمّا كانت هذه المهنة مضجرة،

لم يسر الراعي في ركاب التصورات التقليدية التي يتبعها الرعاة عادة. ومن بينها التحمل والصبر على مشاقّ الحياة والعمل. وأحسن من ذلك تعلّم هواية كالموسيقى أو الغناء، بحيث ينجح المرء في مغالبة الضجر ومخادعة النعاس، بل وحتى في الانسجام مع الطبيعة.
تلك حلول تقليدية رأى صاحبنا أنها لا تتلاءم مع طبيعة المرحلة، ولا ترتقي لتحدياتها. وعليه وجب تجاوزها في إطار فكر جديد يقطع مع الماضي. وبعد تفكير عميق، خطر له أن يصيح بأهله «أن قد هجمت الذئاب الشريرة». فنشر بينهم الهلع داعيا إيّاهم في كلّ مرّة لنصرته. بطبيعة الحال، هرع الناس لنجدة أغنامهم مرة وأخرى. فإذا هم يصدمون لاختلاق الراعي للهجمة. ولمّا كانت الأفكار الجديدة غير المسبوقة نادرة بطبعها، تكررت نفس القصة حتى وقع في ضمير الناس أن صاحبهم كذّاب. حينها بالتحديد ظهرت الذئاب وهاجمت القطيع، في حركة تقليدية لم تراع منهج صاحبنا في التجديد. ثم ماذا ؟ خلاصة تقليدية كتصرفات الذئاب: لم يستجب الناس لاستغاثة الراعي. فكانت الكارثة. أما العبرة، فيمكن اختصارها كما يلي: الحيلة في ترك الحيل. وأوضح منها: إذا أردت أن يصدّقك الناس، فأصدُقهم.
ثم ماذا؟ لا شيء، سوى كون هذه القصة لا تصحّ في تونس. فإذا قبلنا أن نشبّه تونس بقرية حكايتنا، فإن الراعي فيها سيستنجد بالناس مرّات ومرّات. ولا شكّ أنهم سينجدونه، كما أنجد الناس راعي أنعامهم في الحكاية الأصلية تماما. أين الاختلاف إذن؟ الاختلاف أن هؤلاء الناس لن يتوقّفوا عن نجدة صاحبهم. ففي كل مرّة يدّعي فيها أن الذئاب قد هجمت، سيهرع الناس إليه، لا يلوون على شيء. لماذا؟ ربما لأنهم يعملون مثله في وظائف مضجرة. فإذا هم يتسلّون بتسلية صاحبهم. ولكن ربّما وجدوا أيضا في هذه التسلية خيرا لأنفسهم أهمّ من ذلك وأوكد.
فلنتخيّل أحداث القصة من جديد. هرع الناس لمواجهة الذئاب حين دعاهم الراعي في المرة الأولى. وغضبوا حين لم يجدوها. ولكنهم حين عادوا، فسألهم عيالهم عمّا حدث، كذب بعضهم كما كذب الراعي. ادعى أحدهم أنه قد واجه ذئبا مفترسا، ولكنه صاح به: «ألا تعرف من أنا؟» فارتعدت أوصال الذئب رعبا، وولّى هاربا كالفأر. وآخر أسعفه الخيال، ففصّل قائلا: «لقد هويت على أحد الذئاب بهراوتي، فأرديته قتيلا».
استهجن البعض هذه الادعاءات. وأكّدوا للعيال أن الراعي كان يمزح. وأهابوا بالناس أن لا يلعبوا بنار الهلع فتحرقهم، وأن لا ينزلقوا إلى مستنقع البطولات الوهمية فيغمرهم. فخطر الذئاب حقيقي. ولأنه كذلك، وجب الكفّ عن إطلاق الكلام على عواهنه كما يفعل الراعي وأتباعه. ولكن هؤلاء أصرّوا واستكبروا استكبارا.
في المرة الثانية، قال العيال لمن أكّد كذب الراعي وأصحابه: «أكل هذه الروايات من محظ الخيال؟ هذا أمر لا يصدّق. ربّما بالغ بعض مدعيي البطولات. ولكن ليس ثمّة دخان بلا نار».
في المرة الثالثة، امتنع المكذّبون عن الالتحاق بأصحابهم حين دعاهم الراعي لنجدة القطيع. فقال العيال: «إنهم يمتنعون لجبن فيهم. وذاك سرّ إصرارهم على تكذيب هؤلاء الأشاوس الذين يعرّضون صدورهم للنار». هكذا انتشر الشقاق في القرية. بل إن رفض الكذب أصبح فيها معرّة. ولمّا كان الشرف والشجاعة لدى أهلها قيما مثلى، تراجعت المقاومة تحت ضغط الخرافات وما تعلّق بها من بطولات وهمية. ربما خطب أحد مقاومي التخريف امرأة، فعيّرته بجبنه. ربما طالب آخر بنصيبه من المحاصيل، فقيل له: «كيف تطلب ما لم تكن مستعدّا للدفاع عنه».
هكذا، أصبح الزيف مفروضا على الناس. فمن يناقشه، يكفر بالقرية وبعقائدها. فينبذه أقرب الناس إليه، حتى لم يكد يبقى غير حفنة من المقاومين الذين أصرّوا على الإمساك بالجمر حفظا لعقولهم وأملا في أن تنصلح الأمور في يوم من الأيام.
قد يسأل أحدهم: ما أمارات هذه القصة في تونس؟ والجواب أن السطور لا تكفي لتعدادها. ألم تحترف بعض النخب ترديد ما أعجبها من خرافات. ما معنى مثلا أن تعنون إحدى الصحف في بداية هذا الأسبوع أن مائة مليار دينار من القروض والهبات قد تبخّرت؟ تفعل الصحيفة ذلك وهي تعلم استحالة الأمر تقنيّا، كما أكّد ذلك البعيد والقريب.
نكتفي بهذا المثال، لا لندرة أشباهه، ولكن لكثرتها. فلا شكّ أن المثال المذكور قد أثار في مخيال القارئ موجة من الذكريات التي تحيل على غيره من التصريحات النارية والاتهامات المنفلتة على ألسن المسؤولين والسياسيين وبأقلام الإعلاميين والمثقّفين. ألا يثبت ذلك أن حماة الحقيقة في تونس، وخلافا لحالة القرية التي تصفها القصة الأصلية، لم يكونوا لينكروا على راعي الغنم مزاحه؟ ألا يعني ذلك أن ذاك الراعي، لو كان بيننا، لوجد بالفعل من يسانده كلّما اتّهم الذئاب كذبا وبهتانا؟
يبقى السؤال: لماذا يفعلون ذلك؟ والجواب يحيل على أمثولة القرية التي وصفنا حالها، وعلى أهلها اللاعبين بنار الهلع والمنغمسين في وحل البطولات الوهمية. إنهم يفعلون ذلك لأن الحقيقة لم تعد تعنيهم. كل ما يعنيهم هو أن تستمرّ المسرحية. فمنها يقتاتون، وعلى خشبتها يمثّلون.
قد يقال: وما العيب في ذلك؟ ألا تكون هذه القرية قد وجدت في التخريف ما لم تجده القرية الأولى في الكفر به، بما جعلها ترفض الهرع إلى الأنعام يوم هجمت الذئاب، فحلّت بشياهها الكارثة؟ أليس في استمرار المسرحية ودوام إثرائها ما يضمن أن الناس سيهرعون يوم تهجم الذئاب حقّا، بما يضمن نجاة الأغنام؟
ليس ذلك صحيحا. إن تبنّي الناس لأراجيف الراعي وهرعهم الدائم لمواجهة الذئاب المزعومة لا يمنعهم من أن ينكروا في ضمائرهم أسطورة الذئاب. وفي ذلك خطران. أولهما أن هؤلاء الهرعين أصبحوا يستجيبون لنداء صاحبهم دون هراوات تقيهم أو سكاكين تحميهم. هي فقط أجسادهم تحرّكها الرّغبة في إثبات الشجاعة، والحرص على مزيد ادعاء البطولة. وذلك يعني أن الذئاب يوم تأتي لهذه القرية بالذّات لن تكتفي بالتهام الشياه، بل إنها ستفترس البشر أيضا.
الخطر الثاني أن العيال سيملّون، ولو بعد حين، من تكرار نفس الخرافة، حتى وإن كانت بتفاصيل جديدة. وبالتالي، فإن بعضهم سينتهي حتما إلى الشكّ. فبعد أن كان يقال: «لا دخان من دون نار»، ستجد بعض الأصوات تتساءل: «هل أصبحت الذئاب تتكاثر كالأرانب؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا يبقى الحديث عن حربها أكثر بمراحل من رؤية جثثها أو حتى بعض أثرها»؟ -أهل بعد ذلك- يحتاج أيّ منّا أن يسأل: لماذا فقد الكلام معناه؟ أو لماذا لم يعد الناس يصدّقون غير أهوائهم وما يتفق وشهواتهم أو أحكامهم المسبقة؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115