وأن الحروب – بأنواعها – عنصر أساسي في العلاقات المعقدة بين هذه الكيانات وأن السلم التي تنشدها الغالبية الساحقة من البشر إن هي إلا مرحلة انتقالية وهشة بين حربين وذلك مهما بدت لنا صلابة مقومات السلم وقدرتها على الاستمرار .
نحن لسنا أمام حرب عالمية ثالثة كما تخوف من ذلك البعض وذلك لسبب بسيط وهو أن حربا كونية يكون طرفاها المتقابلان روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لن تترك شيئا يذكر بعدها،ولكننا أمام حرب المواقع والاستنزاف بعضها يقع بالسلاح في أماكن وباستعمالات محدودة وجلها يقع في الحلبات الأخرى الاقتصادية والمالية بالأساس .
المعطيات الإخبارية الحالية هامة ولاشك ولكنها لا تفسر الأساسي ،ولا تفسر خاصة الغايات التي تهدف إليها الدول الكبرى اليوم .
بعد انهيار المعسكر الشرقي وتفكك إمبراطورية الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن الماضي ظن الجميع – وخاصة في الغرب – أن عهد الحرب الباردة والقطبية الثنائية قد انتهى بل أن التاريخ ذاته قد انتهى بالانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية وزعيمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتُقد أنها أضحت «الشرطي» الوحيد في العالم.
ولكن الدولة التي تمثل أضخم مساحة في العالم (أكثر من 17 مليون كم2) والتي تملك ترسانة عسكرية ونووية هائلة وتقدما علميا في مجالات إستراتيجية لا يمكن لها ان ترضى بدور المتفرج في لعبة الأمم ولقد وجدت ضالتها في ابن «الكاجيبي» البار، بوتين الذي أعاد الى روسيا الفيدرالية موقعها الأول في التوازنات الجيواسترايجية في العالم.
عندما قبل الكريملين بقيادة قوربتشيف بتفكيك الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات الشعبية كان الاتفاق الدولي فيه قائما على مبدأين أساسيين:
• روسيا هي الوريثة النووية الوحيدة للاتحاد السوفياتي وهي التي تحتفظ بالمقعد الدائم في مجلس الأمن..
• لا ينبغي أن تتحول أهم الجمهوريات السوفياتية الواقعة خاصة في القارة الأوروبية إلى دول معادية أي أن لا تنخرط في حلف شمال الأطلسي وان لا تؤوي على أراضيها قواعد عسكرية لحلف الناتو بترسانتها النووية التكتيكية أو الإستراتيجية بل عليها أن تحافظ على تعاون مقبول مع روسيا وان تكون نوعا من الحزام المحايد بين المعسكرين الروسي والغربي ..
ولكن الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية طمعت في تحويل ضعف القيادة الروسية الأولى بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي (حكم بوريس يلتسين خلال عشرية التسعينات في القرن الماضي) إلى وضع «الدّب الروسي» في القفص ولكن العقدين الأخيرين لبوتين ( بالتناوب مع ميدفيديف) أعادا خلط الأوراق من جديد وأضحت روسيا بوتين قوة عسكرية ذات طموحات دولية إذ تمكنت من إنقاذ حكم بشار الأسد وهزم كل الميليشيات الإرهابية الداعشية أو القاعدية أو تلك التي يدعمها المعسكر الغربي ثم تمددت عبر ميليشياتها الخاصة (قوات فاغنر) في ليبيا مع الماريشال حفتر والآن في مالي مع القيادة العسكرية الجديدة وقبل ذلك أرغمت جمهورية سوفياتية سابقة جورجيا على الرضوخ سنة 2008 وافتكت منها «جمهوريتي» اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ثم عندما أزيحت القيادة الأوكرانية المتحالفة مع موسكو عبر ما عرفت بثورة الميادين في 2013 ألحقت بها «جمهورية القرم» والآن هاهي تعترف بـ»جمهوريتين شعبيتين» جديدتين واقعتين في إقليم الدمباس وتعهد صاحب الكريملين بحماية السلم فيهما وإذا لزم الأمر بالجيوش الروسية.
يمكن أن نصف بوتين بكل شيء إلا بالحمق أو بالجنون أو الضعف..هو يعلم ولاشك أن هنالك ثمنا اقتصاديا وماليا ستدفعه موسكو بحكم ترسانة العقوبات الأوروبية الأمريكية المنتظرة ، ولكنه يعلم في ذات الوقت أن الدول الغربية الكبرى لا تملك سوى هذا السلاح وإنها لن تغامر البتة بإسناد عسكري لحكام كييف،وهو يعلم أيضا أن حلفه الجديد مع الصين الشعبية لن يتحول إلى حلف عسكري ولكنه باستطاعته تعويض جزء هام من مبادلات بلاده مع الدول الغربية،ثم إن روسيا تملك سلاحا فتاكا آخر وهو الغاز الطبيعي الذي يموّل دولا غربية عدة بالطاقة وعلى رأسها ألمانيا ..
تدرك القيادة الروسية أن العالم بصدد التغيّر وان موازين القوى الاقتصادية والبشرية وكذلك العلمية والتكنولوجية تتجه تدريجيا من المحيط الأطلسي (أمريكا وأوروبا) إلى المحيط الهادي (الصين والهند وكل القوى الأسيوية الصاعدة مع أمريكا وحلفائها في المنطقة أي اليابان وكوريا الجنوبية) وروسيا كما لا يخفى على أحد دولة أوروبية وآسيوية أيضا وهي ستسعى بكل جهد لتحويل قوتها العسكرية إلى قوة اقتصادية تعادلها مستفيدة في ذلك من قدرتها على رسم التحالفات الجديدة مع مركز العالم القادم على عجل: الصين الشعبية.
في الأثناء لا يخدم الاستمرار الحاد للازمة الأوكرانية مصلحة أي طرف وأن تسوية سياسية قادمة ليست مستبعدة ولكنها ستكون ودون شك وفق شروط بوتين مع بعض التنازلات الشكلية هنا وهناك والرسالة واضحة وجلية : روسيا لم تعد قوة إقليمية هشة كما كانت مع يلتسين بل هي قوة عالمية كبرى تؤثر في المعادلات الجيوسياسية الأساسية وتجبر الأطراف المتنافسة أو المعادية لها في أمريكا وأوروبا على تغيير ولو نسبي في حساباتها وتوازناتها ..
يبقى سؤال أساسي واحد : هل سيقدم المعسكر الغربي على حرب طويلة المدى اقتصاديا وماليا وطاقيا مع «الدب» السوفياتي..حرب لن تستفيد منها سوى الصين الشعبية أم انه سيلجأ فقط إلى حفظ ماء الوجه في انتظار احتمال تغيّر سياسة موسكو بعد بوتين؟
سؤال إضافي : هل أن لدى الدولة التونسية قراءة دقيقة لهذه التوازنات العالمية المتحركة وهل أن لديها تقديرات لمختلف السيناريوهات ولتأثيراتها على تزودنا بالنفط وبالحبوب، وهل أن لدينا استباق لصورة عالم الغد ولموقعنا فيه ؟
نتمنى أن تكون لتونس بدايات للتفكير في كل هذا.
الأزمة الروسية الأوكرانية وملاح العالـم الجديد
- بقلم زياد كريشان
- 10:16 23/02/2022
- 1208 عدد المشاهدات
تأتي الأزمة الروسية الأوكرانية الأخيرة لتذكرنا بأن العالم منذ أن شهد ميلاد الدولة ثم الإمبراطوريات الضخمة محكوم بموازين القوى