مرورا بالإنفاق العمومي الضروري لتعصير وتجويد وتقريب العدالة من عموم المواطنين هذا فضلا عن جعل مجلة الإجراءات الجزائية وكل مجلاتنا وترسانتنا القانونية ملائمة لمقتضيات الحقوق والحريات الفردية والعامة المنصوص عليها في الدستور وفي كل المعاهدات الدولية..
وغني عن القول – أيضا – بأن القضاء التونسي مريض بحكم رغبة الحكومات والنظم المتعاقبة - منذ استقلال - في وضع اليد عليه وبضمان طاعته وخضوعه إلى السلطة التنفيذية..
السؤال الجدي الوحيد اليوم بعد جولات الصراع والنزال بين رئاسة الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء هل ان المرسوم الصادر يوم الأحد الفارط بالرائد الرسمي والمتعلق بإحداث «المجلس الأعلى المؤقت للقضاء» خطوة في سبيل الإصلاح أو سعي جديد/قديم لمزيد وضع اليد على القضاء ؟
المجلس الأعلى للقضاء الذي تم حلّه بالمرسوم المشار إليه آنفا كان يتكون من 45 شخصا مقسمين سواسية على مجالس ثلاثة: العدلي والإداري والمالي.. ثلثا المجلس (30) منهم من القضاة، 12 معينون بالصفة و18 منتخبون من نظرائهم أما الخمسة عشر عضوا الباقين (أكثر من نصفهم من المحاماة) فهم منتخبون من نظرائهم..
هذه تركيبة المجلس المنحلّ بحكم المرسوم الجديد،اما المجلس المؤقت فيتكون من 21 شخصا كلهم من القضاة : 12 معينون بالصفة تماما كما في المجلس المنحل و9 قضاة متقاعدون يترشحون بصفة فردية خلال الأيام العشرة الموالية لنشر المرسوم ولرئيس الجمهورية أن يعيّن من بينهم أو من غيرهم الأعضاء التسعة المتممين للقضاة المعينين بالصفة،ثم إذا كان المجلس السابق ينتخب رئيسه من بين القضاة الأعلى رتبة فإن رئيس المجلس المؤقت هو الرئيس الأول لمحكمة التعقيب .
مهام هذا المجلس المؤقت هي تقريبا نفس مهام المجلس «المنحل» أي المسار المهني للقضاة والحركة القضائية وجزء من التأديب علاوة على تقديم التصورات والمقترحات لإصلاح القضاء وإبداء الرأي في كل التشريعات المتعلقة بتنظيم العدالة، ولكن الجديد / القديم بالنسبة للمجلس المؤقت هو المساحة الضخمة المتروكة لرئيس الجمهورية في الاعتراض على كل ترقية أو نقلة والتوسع الكبير في تسمية كبار القضاة (أي الإثني عشر المعينين بالصفة في الأقضية الثلاثة) إذ نجد في الفصل 19 من هذا المرسوم «ولرئيس الجمهورية (...) الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة كل قاض بناء على تقرير معلل من
رئيس الحكومة أو وزير العدل».
ثم إن رئيس الجمهورية بإمكانه أن يعين في الوظائف القضائية العليا من خارج ترشيح هذا المجلس المؤقت في حين كان مجبرا على التزام الرأي المطابق للمجلس المنحل ..
ولا تتوقف مشمولات رئيس الجمهورية عند هذا الحدّ بل تصل إلى «الحق في طلب إعفاء كل قاض يخل بواجباته المهنية بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل» كما ينص على ذلك الفصل 20، وفي هذه الحالة «يصدر المجلس المعني (العدلي أو الإداري أو المالي) المؤقت للقضاء فورا قرارا بالإيقاف عن العمل ضد القاضي المعني».
الضمانة الوحيدة المتروكة للقاضي في هذا المرسوم هي تواصل عدم نقلته أو تسميته في خطة وظيفية إلا بموافقته الكتابية باستثناء ما تقتضيه مصلحة العمل كذلك الطعن في حركة النقل أمام المحكمة الإدارية،وهذا ما كان مضمونا للقضاة منذ قانون 1972.
نضيف إلى هذا المسح السريع أن الفصل التاسع من هذا المرسوم « يحجر على القضاة من مختلف الأصناف الإضراب وكل عمل جماعي منظم من شانه إدخال اضطراب أو تعطيل في سير العمل العادي بالمحاكم» وهذا الفصل يكاد يكون ترجمة حرفية لما ورد بقانون القضاء الفرنسي لسنة ...1958 !
هل ينبغي أن نذكر هنا أن الشرط الأساسي لاستقلال القضاء هو عدم تدخل السلطة التنفيذية في مساره المهني بالنقل أو الترقية أو التأديب وأن المهمة الرئيسية للمجلس الأعلى للقضاء هي ضمان هذه الشروط مع ردع كل انحراف بالسلطة الكبيرة الممنوحة لكل قاض ..
يبدو أن هذا المرسوم في سعيه المعلن لمحاربة الانحراف بالسلطة قد قضى على كل الشروط الموضوعية لاستقلال القضاة جاعلا منهم احد الأجهزة الوظيفية للدولة فقط لا غير..
وكأن كل هذا لم يكن كافيا لضمان دخول القضاة الى بيت الطاعة فأردف المرسوم في فصله الثالث عشر «يرفع المجلس إلى رئيس الجمهورية تقريرا عن سير أعماله كل ثلاثة أشهر»..
سؤال وحيد لكل المتحمسين لهذا المرسوم: كيف سيكون موقفكم لو أن المرسوم يبقى ساري المفعول زمن رئيس آخر يكون على نقيض قيس سعيد؟ هل سنطالب آنذاك بإلغاء هذا المرسوم؟ وهل سنقبل بتغيير هندسة ومضمون المؤسسات مع كل رئيس قادم؟
قديما قالت العرب نحن نعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال .. أما في تونس المقاربات الجديدة والفكر الجديد فقد أصبحنا نعرِف ونُعرِّف الحق بالرجال فقط لا غير.